خواطر حول القَفَص، حول القَفَص الأوّل، الأوّل والأخير، وقد باتت جميعها أقفاصاً.لكلٍّ حربُه.


هدف مفقود ومحسوس، متفلّت، هنا، تحت الفم، تحت اليد، هنا، هَيوليّ، مستهتر، عارٍ كاللحم الأبيض تحت نصف حجاب أسود، ويَهْرب، يهرب كدخان من سطح إلى أعماق، من السرير إلى الجدار، من قالبه إلى ظلاله ومن ظلاله إلى حرقة عينيك.
هذه المطاردة التي لا تتوقّف، تعرف الارتواء مثلما يعرفه مُتْخَم الوهم، هذه المطاردة الجوهريّة العديمة الجدوى، المضنية بوعدها الخرافي، الشافية بُحمّاها، عبثاً تحاول أن تستمهلها لتسألها: كيف يصبح شيء واحد هدفاً وحيداً يَسْتَحكم؟
كلُّ الغَيرة عليه، كلّ التحديق إليه، كلُّ الانحباس لعدم بعثرة التركيز عليه، وكلّما قَوِيَ الهَوَسُ به خفَّت تلبيته، وكلّما لاحت بوادر النجاة منه، مَللاً أو شَبَعاً أو خيبة، تَجدّد إغراؤه دون سبب، فجأةً، وراح يلتهم الرأس، ويجعل العطش عطشين والجوع مجاعات عن الماضي والحاضر والمستقبل.
لماذا هناك وجوه تَسْكُن الرأس؟ بَشَرات، عيون، شفاه، أصوات، مِشْيات، تَسْكن حيث لم يكن مسموحاً لشيء بالدخول؟


الحبّ هو الإدمان والإدمان هو مصالحة الخيال والخوف.


رأيتُ شجر السرو في عيون وبيوتاً مهجورة على جباه. تراودني ذاكرتي بمستحيلاتي حين أرجوها ألّا تواجهني بشياطيني. يحترق الجليد ليرجع من تحت ذاكرته. الذاكرة لم تعد هيكلاً للماضي، إنّها المستقبل سلفاً. هذا هو حصار الهَجْس. الجدران الأربعة تحصر رأسك في وجه واحد يقول لك: «لماذا تفعل هذا بنفسك!؟». وجه رحيم مبتسم يقترب، يقترب، يملأ عينيك، لكنّه بعيد عن متناول يديك، يديك اللتين، يديك يديك، حيث التيقّن، الوعي، الامتلاك، حيث الامتلاء. رأيتُ كلّ شيءٍ في العينين ولم تلمس يداي شيئاً. لو يأتي النسيان قبل الحياة! لو يصحبها على الأقلّ! لعلّه كان هو الصاحب قبل الخطيئة واسترجَعَتْه الهاوية! ما حاجة نسيان إلى النسيان! أنْ يدفع المسكونُ حياتَه لقاء أن ينسى، جزيةٌ قليلة! أن يُفْرَغ هذا الإناء من روحه، هذه الخربة من أشباحها! أن يُجلى الرأس فيلمع كاليوم الأوّل، ويظلّ يوماً أوّل!
مَن لا يجهد إلى النسيان لم يسكنه أحد، ومَن لم يسكنه أحد ظَلَّ طليقاً كالموت. مَن لم يَسْكُنْه أحد ظلَّ طليقاً كالرصاص والموت.


لا تصدّق أن البوح يُخلّص من المعاناة. كلّ كلمة يقولها المسكون عن محتلّه تزيده أسْراً. الصراخ يُعمّق العبوديّة. كلّما ارتفعت اليدان بالتوسّل ارتفعت سلاسلهما أعلى منهما. ليس خارج كوكب الهجس غير ظلام النجوم المجنونة. الكائنات كلّها، خارج دائرة الساكن رأسك، الكائنات كلّها دخيلة، كريهة، أو مقبولة قَدْر تذكيرها بالساكن رأسك... أنت المسكون مصلوب دون جلّادين، وحيدٌ دون حاجة، متظاهرٌ بالسلوك الطبيعي بينما رأسك ساحة لرحلة أبديّة تسقط فيها أنت كلّ لحظة على وجهك ولا يسقط بين يديك مرماك إلّا تكون توائمه قد انتصبت أمامك تدعوك للّحاق بها، أشدّ إغراءً من سابقتها، متجدّدة تخطف العقل، جذّابة كحلمك، وديعة مستسلمة كحلمك، ضاحكة ليّنة عَطِرة مذهلة كوجه ملاكٍ بفكر شيطان وجسدِ هذيانِ الجسد.


هل للمرء أن ينطلق وهو مكبّل بالهاجس
وهل له أن يرسو والهاجس يُطوّح به؟
كيف للطفل أن يَطْفُلَ وعيناه مسكونتان؟
مراراً تَسألُ الأغنية المعادة
واللحنُ الباكي لكمنجةٍ تَضْحَكُ من عازفها...


لكلٍّ حربُه. المسكون مقتول بدون شهادة. لكلٍّ سلامه. سلامُ المسكون لا يأتيه به سلام ورأسه لا تلهيه عنه حرب. المسكون يعتقد أن البشر اخترعوا التاريخ ليهربوا من رأسهم. ليهربوا من هواهم. ليهربوا من السراب. المسكون لا يعترف بأن السراب سراب، مع أنه هو الذي بجنونه يُحوّل الواقع إلى سراب. المسكون لا يُعاشَر إلّا مقموعاً، ولا يَقْمعه غير خوفه من المرآة. المسكون مسكون أيضاً بخوفه من أن يُعْرَف كم هو مسكون.


كلّما طارَدْنا حلماً، لماذا نقول، حين نتعب، إننا في الواقع نسعى إلى الله؟
السعي إلى القبض على حدود الجسد ليس سعياً إلى الله. لا نريد الاستعجال إليه. البرنامج الحالي يكفي. كلّما حصلت تلك الفجوة في الصدر من عَبَث المطاردة، من تناقض الحصول والتوقُّع، قالوا: هو ألم البحث عن المُطْلَق... ليس مُطْلَقاً هذا اللحم، إنه مأكلٌ ومَشْرَب! لا يدفئني التجريد بل أنتَ أيّها المجون! لستُ خروفاً صالحاً بل أنا ذئبٌ جائع، أبداً جائع، لن تُشبعني الأطايب الأرضيّة ولكنّي أريدها كلّها، لن أتنعّم كما أشتهي ولكنّي أشتهي، وليس هذا قناعاً لمُطْلَقٍ إلاّ مُطْلَق الجسد، وليس صوفيّة إلاّ صوفيّة الهذيان الجنسيّ.


ولكنْ لو يُسْكَن الجميع... أيشكّل ذلك درعاً ضدّ العزلة؟
ألا يتحوّل الهذيان، حين يَعمّ، إلى صلاة صامتة؟
صلاة لا يقف على وهجها الحارق إله؟


ليس العجوز مَن يَشيخ. بل مَن لا يعرف أن يشيخ، والطفل ليس مَن وُلدَ حديثاً بل مَن لم يأخذ لُبَّهُ ذلك الطيف. لكلٍّ حربُه. لكلٍّ حربُه. لا يخاف المسكون على نفسه بل على ساكنيه. وجوههم هي قلبه. ويشتدّ عليه الهجس إلى الذروة عندما ينصهر الساكنون في وجهٍ واحد. الواحد أقتل من الجَمْهَرة. الواحدة لا تُضعفها حتّى عيوبها. لا عيب فيها وكلّما تبذّلتْ اكتنزتْ وليمتُها. لا نهاية لها مهما أُخذتْ. لا تُحْكَم مهما تساهلتْ. تَحنُّ كالندى ولا تنهمر كالسيل ولو تدفّقتْ. تحنّ وتَعْطف كالغصن على الورقة. لكلٍّ حربُه. حضوركِ قَمَرٌ فوق غابتي وغيابكِ شمس على الصحراء.


لا تحسبنّ المهجوس من أهل الكآبة، فهو من أهل الغَلَيان والكآبةُ بُحَيْرةٌ ذاهلة. يُحكى عن الإخفاق ولمَ لا يُحكى عن الفوز؟ ثمّة جولات للنصر أيضاً فوق تلك الدروب. لا جميعها ذرىً ولا جميعها هاويات، المؤلم فيها ليس دوام الهزيمة والممتع ليس دوام الفوز، بل دوام المَسير. الراحة محرَّمة والنوم انتقال من أُنس كاذب إلى وحشة
كاذبة.
ويعاود المسكونُ رحلته كأنها الأولى. بعد كلّ جولةٍ يظنّ أنه في السابقة نسي أمراً، تَرَكَ نقصاً، ارتكب خطأً، أبقى فراغاً.
ويريد التصحيح.
المسكون كماليّ، يرفض الشوائب. هذه المرّة سينجح. هذه المرّة سيصحو وفي فمه طعم الارتواء.
هذه المرّة...


وماذا لو نجح مرّة!؟
ألا تكون الصدمة إلاّ خيبة؟ وماذا لو طلعتْ مفاجأة سارّة، واستضاف المسكونُ ساكناً يملأ عليه حواسه وأحلامه!؟
أحياناً تحصل... لكلٍّ حربُه ولكلٍّ أيضاً
سلامُه.
تَحْصل، يفيض الإناء بالنعمة، تُسَدُّ الفجوات كلُّها، يمشي المسكون في قلب حلمه أشبه بنشيد الإنتصار، أشبه بالجوقة الساحقة. النعمة تفيض عنه، يغدو إلهاً! راح الماضي، عرسٌ وجنّة، لا يعرف كيف يَملأ جسده، ويداه لا تُلحّقان.
لا ينقصه شيء، اكتملتْ. إنّها المعجزة! لقد وجد المهجورُ مَن يَسْكنه، والمسكونُ مَنْ يَطير به. وجد صيّاد المستحيل، مستحيلَهُ.
إلى حين؟
ولو إلى حين، لا تَقُلْها!
ما عدا الفراغ، كلّ قبضٍ هو إلى حين. طبيعي إلى حين.
كلُّ واحةٍ سراب.
لا تَقُلْها.
سَلَفاً ستعيشها كذكرى، اغرقْ فيها.
لا حربَ هناك ولا سلام، بل مرورٌ فوقَ شاشة، والذين يشاهدونها الآن سيمرّون بدورهم فوقها بعد حين، كغبارٍ داكن تسوقه الرياح حيث تَسوق الرياح.