طائر الفينيق بين كروم كاليفورنيا و«قلب الظلمات»إنّه الابن الرهيب
للمؤسسة الهوليووديّة، كلما قادته مغامراته الإنتاجيّة إلى الإفلاس، يعود إليها مستسلماً ومستغيثاً. بعد عقد من الغياب، وما إن استعاد عافيته الماليّة، بفضل رواج النبيذ الذي يحمل اسمه، يعود «صانع المطر» إلى الصالات بفيلم جديد، ويباشر تصوير ملحمة سينمائيّة عن عائلته...
عثمان تزغارت
أكثر من عشر سنوات مرّت على آخر تجربة إخراجية للسينمائي الكبير فرانسيس فورد كوبولا، الذي أنجز فيلم «صانع المطر» (1997). منذ ذلك الحين، اعتقد كثيرون أن الشّعلة التي كانت تحرّك صاحب «العرّاب» انطفأت وأنه قرّر الابتعاد عن الإخراج ليتفرّغ لمهنته الأخرى... صناعة النبيذ!
لكنّ الأمر لا يتعلّق بالاعتزال الفني الطوعي. كوبولا الذي لُقّب في هوليوود ذات يوم بـ«نابليون السينما»، يشتهر بمزاج ناري وطموح فني، و«أنا» منتفخة تقارب جنون العظمة، ما جعله مثل بونابرت يتقلّب بين الانتصارات العظيمة والسقطات المدوّية، حتى إنّ بعض النقاد بدأ يتساءل في مطلع الثمانينيات، بعد الفشل المريع لفيلمه «ضربة قلب» (1982): هل يمكن تشبيه كوبولا بنابليون السينما أم بنيرونهابداياته السينمائية تعود إلى النصف الثاني من الستينيات، في خضم الموجة الهوليوودية الجديدة التي شهدت ميلاد سينمائيين شباب مشاغبين، أمثال سكورسيزي وسبيلبرغ ودي بالما. لفت أنظار الاستوديوهات الهوليوودية الكبرى، منذ فيلمه الثاني «لقد أصبحتَ الآن ولداً كبيراً» (1966) الذي أنجزه بميزانية متواضعة. أُعجبت استوديوهات «بارامونت» بموهبة هذا المخرج الناشئ، فرصدت ميزانية ضخمة لتمويل فيلمه الثالث «وادي السعادة»، لكنّ الفيلم فشل فشلاً ذريعاً، ما مهّد لدخول كوبولا معركة شاقة مع هوليوود، وبذلك بدأت تتّضح معالم الشخصية الفنية الإشكالية لهذا السينمائي، فكل نجاح كبير يحقّقه، يزجّ به في جنون العظمة، ما يجعل عمله التالي يواجه فشلاً ليس للشركة المنتجة فحسب، بل أيضاً لكوبولا نفسه، إذ يضطر إلى رهن أملاكه الشخصية لإنهاء أفلامه. لكن الفشل وشبح الإفلاس هما دائماً له دافع للانطلاق مجدداً، في جدلية سيزيفية ترغمه كلّ مرّة على البناء من الصفر، ليولد من جديد من رماده مثل طائر الفينيق...
بعد سنة من فشل «وادي السعادة»، استطاع كوبولا أن يحقق فيلماً يعدّ اليوم من كلاسيكيات الفن السابع، وهو «ناس المطر» (1969). لكن نجاح الفيلم لم يُنسِ كوبولا خلافاته القديمة مع الاستوديوهات الهوليوودية، فاستثمر الثروة الطائلة التي حصدها من إيرادات «ناس المطر» لتأسيس استوديو هوليوودي منشق، مع جورج لوكاس، أسمياه Zeotrope America. لكن أول عمل أنتجه الأستوديو، وكان بعنوان THX 1138 (إخراج جورج لوكاس) سقط سقطة قاسية في شبّاك التذاكر، رغم أنه مثّل صيغة جنينية أسفرت لاحقاً عن ولادة سلسلة «حرب النجوم» التي صنعت شهرة لوكاس. هكذا خسر كوبولا كل ثروته ووقف ثانية على حافة الإفلاس!
لتفادي حجز أملاكه الشخصية، اضطر للعمل مجدداً مع الاستوديوهات الهوليوودية، فكتب سيناريو Patton، ثم وافق على مضض على مشروع لاقتباس فيلم من رواية «العرّاب» لماريو بوزي. ورغم أنّه خاض التجربتين مرغماً، إلا أن النجاح الفني الذي حققه فاق التوقعات، حيث حاز أوسكار أفضل سيناريو لسنة 1971 عن Patton، وأوسكار أفضل فيلم لسنة 1972 عن «العرّاب».
ثم توالت نجاحاته، فصوّر، عام 1973، فيلمين دفعة واحدة، أولهما كان الجزء الثاني من «العرّاب» (أوسكار أفضل فيلم عام 1974) والثاني هو «محادثة سرية» (السعفة الذهبية في مهرجان «كان» في السنة نفسها).
وإذا بتلك النجاحات المتتالية تستدرج كوبولا لاستعادة حلم قديم يتعلق بإنجاز فيلم ضد حرب فيتنام بعنوان «الرؤيا الآن»، حسب العنوان العربي السائد، أو «نهاية العالم الآن»، المقتبس من رواية «قلب الظلمات» لجوزف كونراد. وفي أواخر 1974، شرع بتصوير Apocalypse Now في غابات الفيلبين. لكن التصوير واجه مشاكل دفعت بالاستوديوهات الهوليوودية إلى التخلي مجدداً عن كوبولا، ليضطر إلى رهن أملاكه الشخصية لاستكمال الفيلم الذي سيستغرق تصويره أكثر من ثلاث سنوات! وفي أيار (مايو) 1979، قوبل الفيلم بحفاوة نقدية بالغة في مهرجان «كان» وحاز «السعفة الذهبية» ثم حقّق لاحقاً النجاح العالمي.
ومرة أخرى، لعب النجاح في رأس كوبولا، فأحيا مشروع استوديو Zeotrope عبر شراء General Studios، ووقّع عقوداً سنوية مع نجوم كبار ودخل في مشاريع غير مضمونة على الصعيد المالي. وإذا بتلك المجازفات توصله مجدداً إلى حافة الإفلاس... حتى وصل به الأمر في 1981 إلى البكاء مترجياً التقنيين في «ضربة قلب» كي يستمروا في العمل معه بشكل تضامني لإنهاء فيلمه! في ربيع السنة التالية، نزل الفيلم إلى قاعات العرض ولم يلقَ أي نجاح...
كان ذلك آخر عهد كوبولا بسينما المؤلف الذي عدّ أحد أبرز رموزها منذ الستينيات. وأصبحت كل الأفلام التي أنجزها مجرد طلبيات جاهزة من الاستوديوهات الهوليوودية. ورغم ما اشتهر به من «أنا» منتفخة، لم يمانع في لعب هذا الدور، فقد أصبح شغله الشاغل مواجهة الديون التي تراكمت عليه. وكان همّه أن يحول دون مصادرة الدائنين حقول كروم النبيذ التي اشتراها مطلع الثمانينيات في كاليفورنيا وتنتج نبيذاً يحمل اسمه.
ولمواجهة الدائنين، أنجز كوبولا جزءاً ثالثاً من «العرّاب» (1990)، وأفلاماً أخرى من أكثرها تميزاً «بيغي ـ سو تزوجت» (1986)، و«دراكولا» (1992)، وأخيراً «صانع المطر» (1997). وما إن خرج من ورطته الماليّة حتى قطع حبل السرّة مع النظام الهوليوودي، قاطعاً على نفسه عهداً بألا يعود إلى السينما إلا إذا امتلك الإمكانات المالية لإنتاج أفلامه بنفسه...
استغرق الأمر عقداً كاملاً قبل أن يستعيد عافيته، بفضل الرواج العالمي للنبيذ الذي يحمل اسمه. عندها عاد الرجل إلى حبّه الأوّل... فكانت النتيجة «شاب بلا شباب» الذي يُعرض حالياً بنجاح في الصالات الأوروبية (راجع البرواز).
وما إن مرّت التجربة بسلام، حتى انطلق كوبولا، كعادته، في مشروع ملحمي ضخم. يحلم، هذه المرّة، بإنجاز فيلم بيوغرافي عن عائلته ذات المسارات الفنيّة المتعددة. والسؤال الذي يؤرق اليوم محبّي كوبولا ومنتقديه على السواء، مع شروعه بتصوير العمل الجديد هو: هل سيحقق صاحب «صانع المطر» رائعة يختتم بها مساره الفني الخصب؟ أم إنّه سيزج بنفسه ـ مرة أخرى، قد تكون الأخيرة! ـ في «قلب الظلمات»؟


عودة الشيخ إلى «شبابه»
في فيلمه الأخير «شاب بلا شباب»، يستعيد كوبولا تيمةً احتلت مكانة مركزية في أعماله، وتتعلق بالتساؤل الوجودي عن حتمية الشيخوخة والموت، وعن سرّ الشباب، وهل سيتوصل العلم يوماً إلى استعادته أو تخليدههذا القلق الوجودي عند صاحب «العرّاب» ليس وليد تقدّمه في السن، فقد سبق أن تناول هذه التيمة منذ فيلمه الثاني «لقد أصبحتَ ولداً كبيراً الآن» الذي صوّر هذا القلق الوجودي بعيون مراهق يرفض أن يكبر، ثم استعاد التيمة ذاتها عام 1996، في فيلمه «جاك» الذي صوّر معاناة طفل يكبر بوتيرة تفوق المعتاد، فيبدو في سن الرابعة عشرة كأنه في الأربعين. وها هو يعود إلى الموضوع ذاته في «شاب بلا شباب» المقتبس من رواية للفيلسوف الروماني ميرسيا إلياد، تروي قصة عالم لسانيات في السبعين يسابق الزمن لاستكمال أبحاثه حول أصول اللغات الشرقية، وذات أمسية رعدية تصيبه الصاعقة، فتتسبّب في خلل جيني يجعل نموّه عكسياً، حيث يستعيد شبابه يوماً بعد يوم، بدلاً من أن يشيخ!
يعتقد العالم العجوز أن المعجزة التي كان يتمنّاها تحققت، وأنه سيجد الوقت الكافي لاستكمال أبحاثه، لكنه يُفاجأ بأن الجواسيس من مختلف الجنسيات يطاردونه ويسعون إلى خطفه، أملاً في اكتشاف سر شبابه المتجدد، ما يرغمه على الفرار من بلد إلى بلد، وتغيير هويته باستمرار، والتقلب بين مهن شتى لكسب قوته، بعيداً من المهنة التي يعشقها، وهي علم اللسانيات...
ألا تذكّر هذه القصة بالتقلّبات الدائمة التي واجهها كوبولا طيلة مساره الفني، وأرغمته على الابتعاد مطوّلاً عن السينما التي يحبّ؟