يا سـادة يا كرام... «الليلـة نرتجل» علـى مسرح مونـومنذ الستينيات، لجأ المسرح العربي إلى تقنيات الحكواتي وجماليات السرد... فماذا بقي من فنّ الراوي، في زمن القطيعة بين التجارب الطليعيّة
والتراث؟ أمس انطلق في بيروت «مهرجان الرّواة والمونودراما» الذي يمثّل فرصة لاستعادة تجارب جعلت من الحكواتي حجر الأساس في العرض المسرحيstrong>بيسان طي
أقول يا سادة يا كرام إنّ الرّواة عادوا إلى بيروت... هكذا، سكت الجميع عن الكلام المباح، لينفرد حكواتيون من العالم، ومعهم تلامذة من لبنان، بخشبة مسرح مونو. الدورة التاسعة من «مهرجان الرّواة والمونودراما» (Le Festival Du Conte Et Du Monodrame) التي بدأت أمس وتستمر حتى 16 الشهر الجاري، يشارك فيها خمسة حكواتيين رئيسيين هم: يانيك جولان وفرانسواز دييب وكلود دلسول من فرنسا، والمصرية شيرين الأنصاري، والسويسري بيار روزات. يسبق كل حكواتي محترف تلامذة مدارس في منطقة الشوف، إذ يقدّم «المركز الثقافي الفرنسي» هؤلاء الحكواتيين الصغار في مشاهد من عشرين دقيقة، يروون خلالها حكاياتهم بالعربية الفصحى أو باللهجة الدارجة... وفي ختام المهرجان، سيصعد الجميع إلى الخشبة، ليرتجلوا الحكايات ويروونها في ما يسمى «مسابقة الكذّابين».
«مسرح مونو» الناشط في تقديم العروض المسرحية والموسيقية والغنائية، سيفرد خشبته إذاً للحكواتيين، وقد تحوّل هذا المهرجان إلى تقليد سنوي، يُقام عادة في مثل هذه الفترة من العام، وقد صار له جمهور كبير ينتظره ويتابع عروضه.
وكان المهرجان أُطلق قبل تسعة أعوام بالتعاون مع «دار ثقافات العالم»
(Maison des Cultures du Monde) التي يرأسها المسرحي السوري الأصل شريف الخزندار. والمعروف أن هذا الأخير جاب العالم على امتداد عقود، من أفريقيا إلى أميركا اللاتينية، بحثاً عن كنوز الفنون الشفهيّة عبر الحضارات والأصقاع. وعمل الخزندار طويلاً من خلال مسرحه الباريسي، على دعم مهرجانات حول العالم متخصصة بأساليب التعبير الشعبية، ومن أبرز نشاطات الدار «مهرجان المتخيل» (Festival de L’ imaginaire) الذي انطلق عام 1997، وهو مساحة مفتوحة لأشكال التعبير الشعبية النادرة، أو التي ضاقت بها وسائل الترويج الاستهلاكيّة في العالم. وجاء «مهرجان الرواة والمونودراما» امتداداً لتلك الفكرة، في عواصم عربيّة عدّة... في عروضه يتجاور كبار الفنون الشعبية، وفنانون من الجيل الشاب، يبحثون عن كيفية تطوير هذه الفنون، وتجديدها، ورفدها بأشكال تعبيرية متنوعة. ويتولّى جهاد درويش التحضير للمهرجان في بيروت وتنظيمه واختيار المشاركين فيه... وهو حكواتي لبناني يعيش في فرنسا ويجوب العالم ليروي حكاياته. فشل درويش في إقامة مهرجان للحكواتيين في صيدا، فكانت فرحته كبيرة بالدعوة التي تلقاها للمشاركة في الدورة الأولى من مهرجان “مونو”، ثم تولى الادارة الفنية للمهرجان. ويلفت إلى أنّ اختيار الحكواتيين يتم وفق “معايير انسانية وفنية، ونحاول كل عام أن ندعو إليه فنانين من أنحاء العالم، بعضهم يروي حكاياته مستعيناً بصوته فقط، وبعضهم الآخر يلجأ إلى الموسيقى أو السحر أو مؤثرات أخرى”.
منسّق النشاطات في «مونو» زياد حلواني، يلفت إلى أنّ «وجود الحكاية والحكواتي طبيعي وقديم جداً في مجتمعنا، وفي مجتمعات أخرى»... ويأتي المهرجان مبادرة لا بدّ منها لخلق علاقة ديناميّة بين الجمهور اللبناني وهذا الفن. كما لعب في اكتشاف رواة مهمّين، مثل شيرين الأنصاري التي لفتت بحضورها وأسلوبها المميزين خلال مشاركتها في المهرجان عام 2002، ليتكرّس لاحقاً حضورها العالمي.
وقد أسهم المهرجان أيضاً في اكتشاف مواهب فتيّة، من خلال إتاحة الفرصة للتلامذة الذين يصعدون إلى خشبته، كاشفين عن مواهبهم في فن الكلام والرواية، ومكتسبين تقنيات فنّ الحكي وأصوله وتقاليده.
وقد سمحت هذه المبادرة بالتعرف إلى تجارب من مختلف أنحاء العالم، كاسرةً الاعتقاد السائد بأنّ «فن الحكواتي» حكر على الثقافة العربيّة. وقد اكتشف الجمهور حكايات تنتمي إلى أشكال من فنون الحكي، تختلف باختلاف ذاكرة الشعبوب وثقافاتها. كما أعاد المهرجان الاعتبار إلى تجارب سابقة أخذت الحكواتي من المقاهي وسهرات المنازل والحارات لترمي به على خشبة المسرح. فالكاتب المسرحي الإيطالي داريو فو بنى جزءاً أساسيّاً من تجربته على فنّ الراوي (Fabulatore)، مع عرضه الأشهر «ميستيرو بوفّو». وفي مسرحيّته «رأس المملوك جابر»، اعتمد سعد الله ونوس على الحكواتي شكلاً مسرحياً. وتلفت خالدة سعيد في كتابها «الاستعارة الكبرى في شعرية المسرح» إلى أنّ الحكواتي يتوسط «مسرحيات ونوس دائماً في شكل ظاهر أو مضمر، فهو راوي السير والحكايات، ومؤرّخ الانفعال والخيال، وخازن الذاكرة الشعبية».
التجربة الأبرز في لبنان هي التي أطلقها عام 1977 المخرج روجيه عساف مع مجموعة ممثلين وطلاب في «معهد الفنون الجميلة» في الجامعة اللبنانية، وموسيقيين ورسامين.... كرفيق علي أحمد وبطرس روحانا وعبيدو باشا وحنان الحاج علي وسمير خدّاج ومارك موراني... وكان أبرز نتاجاتها مسرحية «أيام الخيام». وسُميت المجموعة بـ«مسرح الحكواتي»، حيث كان أعضاؤها يلملمون الحكايات من الناس ويذهبون إلى الأحياء والمخيمات والقرى والملاجئ. ومن «ألسنة الناس» في جلسات السهرات والسمر أو جلسات الملاجئ، جاء الممثلون بالحكايا. تلفت الممثلة حنان الحاج علي إلى أنّ التجربة قامت على «العمل الجمعي»، وتكمن بذورها الأولى في نجاح مسرحية «مجدلون» (1969) التي قدّمها رفيق دربها روجيه عساف في إطار «محترف بيروت للمسرح» (مع نضال الأشقر وآخرين)، بعدما عايش الفدائيين الفلسطينيين في قرية أردنية.
ويلفت «بيان مسرح الحكواتي» (1979) إلى أنّ عملية الكتابة كانت مستمرة نسبياً خلال مراحل الإعداد والعروض. وتذكر الحاج علي أن اختيار الحكايات تمّ استناداً إلى تجاوب الناس مع القصص، أو إعادتهم لها خلال اللقاءات. قدمت الفرقة العروض في المسارح والمدارس والمخيمات... وحسمت تجربة «مسرح الحكواتي» جدلاً عن إمكان إدخال الحكواتي وفنون شعبية أخرى في العرض المسرحي، وأكدت على التقاطع بين التمثيل والحكي. فتقديم الحكواتي «لم يتنافَ مع دخول الممثل في دوره».
وتوضح الممثلة اللبنانيّة المعروفة أنّ الحكواتيين في الثقافة الشعبيّة كانوا نوعين: حكواتيو جلسات السهر والسمر، وآخرون تحوّلوا ــــــ بعدما أثبتوا تميزهم ــــــ إلى حكواتيين في المقاهي. وتشرح أنّ الحكواتيين كانوا مشبعين بقصص من التراث، يحفظون الشعر والسيرة الهلالية وقصص الحب وحكايات السياسة والمراثي والمفاخر، ويتميزون بملكة القول... وإن كان بعضهم «أمّياً» وفق التصنيف الأكاديمي الحديث. وتبيّن أنّ الحكواتي إذا صعد على خشبة المسرح «بدا كأنه دارس للتمثيل لكثرة ما تمرّس في مهنته على كيفية إيصال صوته والتنقل من حكاية إلى أخرى، والنظر في عيون المشاهدين»...
وتلاحظ حنان الحاج علي أنّ «فن الحكواتي تأثّر بطروحات ما بعد الحداثة، فصار يجمع قطعاً قديمة وأخرى حديثة، كما يجمع الشخصي والعام»، لافتةً إلى أنّ بعض الرواة تناولوا «سيراً حياتية راهنة ومعيوشة، جسّدت علاقاتهم بالحيّز العام». هكذا لم يعد الحكواتي مرتبطاً فقط بالماضي «بل صار حكيه حيوياً ومرتبطاً بالحياة العصرية، لذلك صار مطلوباًبهذا المعنى، قد يكون انفتاح «مهرجان الرواة والمونودراما» على الأساليب الحديثة في السرد، من عوامل نجاحه.



حتى 16 آذار (مارس) الحالي ــــ مسرح مونو ــــ 01،202422



حكواتيّة في مخيّم
اللاجئين الفلسطينيّين

إضافة إلى عروض «مسرح مونو»، يتضمّن برنامج المهرجان ورشات تدريب على فنون الراوي، وسيشارك رواة المهرجان في تقديم عروض في المدارس اللبنانية، كما هي العادة في السنوات الأخيرة، وينتقلون هذا العام إلى بعض المدارس الرسمية، كما سيقدّمون عروضاً في مراكز ثقافية في مناطق مختلفة، وفق طلبات المدارس والنوادي.
والجديد هذا العام، مبادرة مميّزة وذات أبعاد سياسيّة وإنسانيّة مهمّة، إذ ستذهب الحكواتيّة المصريّة شيرين الأنصاري يوم السبت إلى مخيمي البداوي ونهر البارد للاجئين الفلسطينيين، لتروي قصصها هناك.
يلاحظ المتابع لسيرة الأنصاري أنها اعتادت الذهاب لملاقاة أبناء الأحياء الشعبية والفقيرة. لقد جالت مسارح ومهرجانات عالمية، كما جلست على كرسيّ الحكواتي القديم في مقاهي القاهرة، وفي مقهى النوفرة في دمشق، حيث روت من حكايات ألف ليلة وليلة.
ستستعيد الأنصاري ما قدّمته من حكايات على خشبة مونو أمس لترويه في المخيمين، كما ستلجأ إلى حكايات جديدة من قصص شهرزاد... لكنّ الأكيد أنّها ستعايش حكايات أبناء المخيم الذين يحتفظون بذاكرة خصبة، وغنية بمئات الحكايات المرّة والمحزنة التي عايشتها أجيالهم المتلاحقة، منذ غادروا فلسطين عام 1948 إلى اليوم الذي عادوا فيه إلى مخيم نهر البارد، بعد معركة بين الجيش اللبناني وعصابات «فتح الإسلام»، استمرت أربعة شهور دامية، ودُمّرت خلالها معظم
منازلهم.