أعمال معاصـرة تعلن «الحرب» من عمّانعرفت أشكال التعبير الجديدة في لبنان ازدهاراً لافتاً منذ التسعينيات، على يد جيل شاب مسكون بهاجس الحرب. هذا الجيل، تحتفي به العاصمة الأردنيّة، من خلال معرض «واقع الفن اللبناني الآن» الذي يقام بمبادرة من غاليري «صفير ـ زملر»
في بيروت
نوال العلي
يظهر الفنّانون المشاركون في معرض «الفن الآن في لبنان»، كأنّهم صاروا إلى اتفاق ضمني لتتبّع شخصية واحدة تركض من زاوية إلى أخرى، فأسندت البطولة في أعمالهم للحرب والرعب المتعلق بالحياة والذاكرة بعدها. المعرض الذي تقيمه «دارة الفنون» في عمّان، بالتعاون مع غاليري «صفير ـ زملر» في بيروت، جاء مقدمةً لمجموعة من عروض الأفلام والمحاضرات التي تتعلق بواقع الفن اللبناني وتستمر حتى آخر أيار (مايو) المقبل.
يستوقف المرء عنوان المعرض، لما يحمله من مضمون فضفاض، يفكر في حركة هذا الفن إلى الوراء وإلى الأمام في الوقت عينه. حتى إنه قد يصحّ التساؤل إن كانت أعمال «الفن الآن في لبنان» هي من مخلّفات الحرب؟ وإن كانت ستخرج من سطوتها على الإطلاقوإذا كانت الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي عام 82 تجسّدا في أعمال الفنانين اللبنانيين الذين اشتغلوا على اللوحة التقليديّة، فإن الجيل الجديد من الفنانين الشباب يقول كلمته عن الحرب بأدوات أخرى، إذ تحضر أعمال بصريّة تنتمي إلى الفن المعاصر، من تجهيز وفيديو وصور فوتوغرافيّة ورسوم الصور الفوتوغرافية من أعمال مازن كرباج، إلى شريط فيديو لربيع مروّة. الموضوع هو نفسه، المادة الفنيّة هنا: الحرب ومتعلقاتها تنبعث هنا كأنها جزء من الهمّ الجمالي.
تستضيف «دارة الفنون» أعمال 14 فناناً لبنانياً هم: أكرم الزعتري، باولا يعقوب، جلال توفيق، جوانا حاجي توما وخليل جريج، ربيع مروة، رندا ميرزا، ريان ثابت، زياد عنتر، لميا جريج، مازن كرباج، مروان رشماوي، وليد رعد، ووليد صادق (شارك بعمل مكتوب بالإنكليزية «الحداد في حضور الجثة»). وتحمل تلك الأعمال شرطاًً أسلوبياً متجدداً ومحيراً، ألا وهو العودة إلى الواقعية وتجسيدها وقولها بتلك الوقاحة الفنّية المستحبّة والمرغوبة، وخصوصاً حين تتعلق بالصخب الداخلي والنفسي الذي يتبع العاصفة. لكنّه شرط يقتضي البحث في دور الفن في التوثيق، وقيمة التوثيق في الفن وأثره.
في «أنا الموقّع أدناه»، قدّم ربيع مروّة اعتذاره الذي هو مجرد «كلمات وكلمات وكلمات»، وجاءت صورته على الشاشة واجمة ولامبالية، هادئة تكاد لا تصدّق ما تسمعه في هذا المونولوغ الذي استغرق أربع دقائق فقط. هو الفنان المؤدي وهو الشخصيّة المتخيلة، الحاملة أوزار الحرب، وقد اندمجا في وحدة عضويّة واحدة. مروّة وإن أغمض عينيه، فقد غدت أجفانه شفافة ولم يعد ممكناً إخفاء حقيقته عمّن يراه، كما لم يعد بمقدوره التغاضي عن صورة العالم: «أعتذر، لأنني وافقت أن أتسلّم مدفع هاون من دون أن أتدرّب عليه، أو حتى أعرف كيفية استخدامه. أعتذر، لأنّني وافقت على الذهاب إلى كوبا لمدة شهر للمشاركة في دورة عسكرية لفصائل حرب الشوارع. أعتذر، لأنّني فخور بلبنانيّتي، وأطمح للحصول على جنسية أخرى».
أمّا الفنان والمنظّر جلال توفيق، البيروتي المولد من أب عراقي وأم فلسطينية، فقد حملت ملصقاته الناقدة دلالات سياسية وفلسفية عن الموت الحاضر بقوة، من خلال القتل والانتحار والاستشهاد والحداد. واستعان توفيق في رحلة بحثه بملصقات أفلام مشهورة مثل «آلام جان دارك» لكارل دراير، و«أبدية ويوم» لثيو أنجلوبولو و«لوليتا» (كيوبريك/ نابوكوف)... عاد فاشتعل عليها بصور واشارات من الزمن الراهن، إضافة إلى أعمال فيديو خاصّة به (هو الذي اشتغل بعمق على «احتفاليات عاشوراء») مثل «سلسلة المراثي: اليوم التاسع، ليله ونهاره».
وتدفق الجمهور إلى القاعة المخصصة لعرض رسوم مازن كرباج «أخبار حقيقية من بيروت»، فتوقّف طويلاً أمام الخطوط العفوية والقدرة على تقديم عدوان تموز برسم طفولي وتعبيرات شقيّة تفصح عن جراح، وتجاهر بهموم أسست لها مكاناً في الشخصية اللبنانية.
وتتجول كاميرا رندا ميرزا في مواقع دمرتها الحرب الأهلية. مجموعتها الفوتوغرافية «غرف مهجورة» مسكونة بالتفاصيل العابرة: إذ نجد طلاءً تقشّر عن الحائط هنا، وورق جدران تالفاً هناك، وكثيراً من الأبواب الفارغة. حطام المكان هو الماثل في صور ميرزا، كأنّها تتساءل عن الأرواح والحكايات التي تحوم حول أطلال البيوت التي تحمل بصمات الكارثة... رغم مرور الوقت.
لميا جريج اشتغلت على تشوّش الذاكرة في الحرب، من خلال صورة ضبابيّة لكل ما يدور في الذهن، مذكرات مكتوبة وصور أفلام فيديو، أعمال حملت عنوان «النهاية... شعور غريب من الألفة». أما باولا يعقوب فعرضت عملها «صيف 88»، صور بالأبيض والأسود جسدت هياكل معمارية مدمرة وأخرى عارية، حيث كانت الحرب الأهلية بلغت ذروتها.
وفي معتقل الخيام (جنوب لبنان)، التقط الثنائي جوانا حاجي توما ـ خليل جريج سلسلة من الصور للمعتقل الذي تحول متحفاً بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب عام 2000. وفي عدوان تموز، دُمّر المتحف بالكامل ليظهر الموقع على هيئته هذه كأنه متحف لفعل الحرب. وإلى جانب أطلال المعتقل/ المتحف، تظهر ألواح نصبتها السلطات تحمل صوراً للمعتقل أثناء استخدامه.
أما زياد عنتر، فتبدو صوره كأنّها تحدث بعيداً عن الحرب، لامبالية بمشاهد الخراب الكبيرة التي عمد الآخرون إلى التركيز عليها. صوره تقدّم مجموعة من أغطية الرأس التي صممتها فتيات من مخيم عين الحلوة، و«مخلفات الحرب» وقد جمع فيها المعلّبات الفارغة التي تركها الجنود الإسرائيليون في مواقعهم، أو بقايا مقعد محطّم، أو دبابة للأمم المتحدة تقف في مكان ليس فيه قصف. وبينما تبدو حقائب ريان ثابت المتحجرة محزومةً دائماً... فالحرب التي أغلقت الباب للتّوّ ستفتحه في أي لحظة. وتطل «بيروت كاوتشوك» للفنّان مروان رشماوي خريطةً مسطحةً لمدينة بيروت على شكل أحجية من 60 قطعة مطاطية، فمن يسكن هنا؟ وما الذي يُحدد هذه التقسيمات؟
أما «تذكارات من الجبهة» فهي مجموعة صور التقطها أكرم الزعتري في مشروعه القائم على جمع الوثائق الشخصية المتعلقة بالحرب... تُعرض فيها صور لنباتات ذابلة وأحجار متنوعة جمعها عضو سابق في المقاومة اللبنانية أثناء وجوده مع رفاقه في الجنوب.
«دارة الفنون» التي أرادت الاحتفاء بواقع الفن اللبناني «الآن» خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، اقتصر اهتمامها على جانب محدّد ـ ومزدهر ـ من الإبداع في لبنان، ألا وهو الفنّ المعاصر... لكننا كنا نتمنّى أن تكون زاوية النظر أكبر، وأكثر تنوعاً واتساعاً. فالمقاربة، حسب العنوان العام، توحي بأن الجمهور الأردني سيكتشف تعبيرات فنيّة متعددة من هذا البلد المعروف بازدهاره الثقافي: من المسرح والموسيقى... إلى التشكيل (بمعناه التقليدي) والأدب أيضاً، لكي نكون فعلاً على موعد مع حكايات الحب والحرب والموت والحياة. فحبّذا لو أن الدارة فتحت برنامجها لكل هذه الفنون، من خلال أفلام ومحاضرات وعروض. وإلا كان يستحسن اختيار عنوان أقل ادّعاءً، لا يربط اللحظة الإبداعيّة اللبنانيّة بالفنّ المعاصر وحده، دون سواه!


«الفن الآن في لبنان»، حتى 29 أيار (مايو) المقبل ــ دارة الفنون (عمان) : +96264643251
www.daratalfunun.org


عروض ومحاضراتكما تعرض «دارة الفنون» خلال شهر أيار (مايو) المقبل، أفلاماً في الذكرى الستين للنكبة، من بينها «الجدار الحديدي» للمخرج محمد العطار، وفيلم «احتلال 101» للمخرجين سفيان عميش وعبد الله عميش.