ليلى نصير تطفئ المذياع، تخلع خفّيها، وتنظر إلى الخلف بغضبخليل صويلح
عودتها إلى الساحة التشكيلية السورية بعد غياب عقدين من الزمن هو حدث استثنائي بحق... ذلك أنّ ليلى نصير (1941) التي عرضت أعمالها الجديدة غاليري «أيام» الدمشقيّة، كانت قد اعتزلت الحياة العامة تماماً، مذ غادرت دمشق إلى مدينتها اللاذقية في الساحل السوري... هناك بالقرب من ملهمتها الأولى أوغاريت، تحوم حولها كائناتها الأسطورية المجنّحة، التي رافقتها في رحلتها التشكيلية منذ الستينيات.
درست ليلى نصير فن التصوير في كلية الفنون في القاهرة مطلع الستينيات، لتكون أول امرأة أكاديمية سورية. وقد ترك الفن المصري القديم أثره الذي لا يُمحى على لوحتها، لجهة التلخيص في الخط ورسم العيون الواسعة لتكون بؤرة اللوحة مهما كان حجمها وتفاصيلهاسيرة هذه التشكيلية الرائدة التي واكبت فترة ازدهار التشكيل السوري إلى جانب لؤي كيالي ونذير نبعة لا تقل أهمية عن منجزها في المحترف السوري، إذ كثيراً ما عاكست التيار وواجهت مجتمعها مباشرة من دون تردد أو أقنعة، فهي على أي حال أول امرأة تقتحم مقهىً شعبياً في لاذقية الستينيات وتجلس صحبة الرجال، تتأمل وجوه المارة والعابرين فترسمها على الفور بقلم الرصاص، ما جعل صاحب المقهى يحتفظ بكرسيّها إلى اليوم. وهي مَن ذهب إلى بيروت الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات لترسم الدمار والقتل، ثم عاودت التجربة خلال مجزرة صبرا وشاتيلا وزارت الجنوب اللبناني. هكذا، فإن لوحة ليلى نصير تنبثق من التجربة المعيشة وانفعالاتها المباشرة لحظة الرسم. ترسم ما اختبرته جيداً وعن كثب.
معرضها الاستعادي في غاليري «أيام» الدمشقية الذي يُختتم اليوم، يمثّل فرصة لاكتشاف تحوّلات التجربة وسيرورتها من الدراسات الخطية إلى ألوان الشمع والباستيل والأكريليك التي تمنح اللوحة بعداً حلمياً يتماهى مع كائناتها الأسطورية. ولعل جرأة ليلى نصير تتجلّى في رسم الجسد العاري، فشخوصها تمتد بجذورها إلى حالات الولادة الأولى على خلفية أسطورية مستمدة من الحضارات الشرقية القديمة بكل رموزها في الخصوبة والولادة المتجددة، لكنها بحركة ما تترك أثراً بصرياً مغايراً، يعكس هاجساً تعبيرياً يحمل بعداً مأساوياً، فالوجوه معذّبة وحزينة إلى أقصى حد.
الخط هو الذي يحدد مسار اللوحة لدى ليلى نصير، بإبرازه عناصر الجسد وتكويراته... سواء حين يذهب بحركات دائرية، أو حين يتخذ بعداً هندسياَ صارماً ليكوّن أرضية العمل، وحامله في تحوير الأشكال والتفاصيل الصغيرة في مساحات مهشّمة وتكوينات مهتزة.
وتنهض اللوحة على مستويين، الأول على السطح والثاني في الخلفية. كأن هذه التشكيلية الرائدة ترغب أن تكشف أسرار لوحتها على الملأ، فالعنصر الرئيسي في اللوحة لا يكتمل إلا برسم تفاصيل تكميلية في مستطيل في أسفل اللوحة أو أعلاها، وغالباً ما يحتوي هذا المستطيل أشكالاً آدمية وحيوانية متمازجة... فليس مستغرباً أن تستعير المرأة أجنحة الحصان، أو الطائر أو العكس. وأحياناً ترسم المرأة العارية برأس حيواني وقرون نافرة. لعله البعد الحكائي والميثولوجي، إذ يلح على أعمال ليلى نصير في تراكم معرفي يحيل على حضارة أوغاريت، وفن المدافن التدمرية، وفن البرديّ المصري، مضافاً إليه شحنة تعبيرية راهنة.
تقول نصير في تفسير مسار لوحتها: «ألجأ إلى تكوين العمل الفني على مراحل. ثم أنتقل مباشرة إلى الرسم على سطح اللوحة، وأثناء العمل قد تتغير بعض الملامح. أضيف أو أختصر أو أحوّر سواء في الخط أو اللون». وتستعد الفنانة السوريّة الرائدة، بكامل طاقتها الروحية، لبناء جسورها مع اللوحة: «أقفل المذياع، أخلع خفّي، وخاتمي وساعتي وما يحيط بخصري وعنقي. أتحرر تماماً. ألمس الشمس والأرض بمساحات قدمَي، وأتلمّس اللوحة والفرشاة بأصابع يدي، بعدما أغلق النافذة ورنين الجرس والهاتف. فالحوار يجب أن يكون في داخلي كما أنّ الإحساس يجب أن ينحصر بأناملي».
هذا العراء الروحي الذي يرشح من المناخ الكتيم في مرسم ضيّق، هو الذي يشحن وجوه ليلى نصير بالحمم. الوجوه التي تعيش خرابها الروحي في عسف حياتي متكرر يتجلّى في حالات إنسانية «تنظر إلى الخلف بغضب». بساطة أشكالها وتعاملها مع الألوان الفاتحة أرسى تكنيكاً خاصاً بها... فبصمتها واضحة، حتى حين ترسم دراسات خطيّة لأشكال آدمية وحيوانية على خلفيات بيضاء. لكنّ تلك الدراسات، ستكون محور لوحات أخرى مكتملة: أجساد متلاصقة ومذعورة تبحث عن خلاص غير مرئي أو ملموس، فتلجأ إلى الحلم بنظرات منكسرة أو قدرية أحياناً، فلا عزاء في مناخ قمعي متواصل، يتكشّف في بعض جدارياتها عن خصائص ملحمية تعبيرية، تنتصر لأنوثة مقموعة تاريخياً، بإبراز مكامن فتنتها وخصوبتها وطهرانيتها. المرأة المذعورة في إحدى لوحاتها تتأبّط زهوراً، كأن كل حالات الضيم والعسف والاستلاب لم تفلح في اندحارها وانكسارها، وتتأكد أسلوبيتها الخاصة في ذلك الاحتدام التعبيري، والزهد في اللون والخط، وفي «خصوصية تراجيدية ومغتبطة في آن».
التكوينات الصارمة لبورتريهات نصير، تتكشّف عن حالات من التشظّي والانشطار. فكل جزء من البورتريه هو عالم لوني كامل، يستمد قوته من تجاوره مع فسيفساء اللوحة المكتملة بزخارفها الميثولوجية من أحصنة وثيران وكائنات خرافية.


اليوم الأخير في غاليري «أيام» (دمشق) : 963116131088+
www.ayyamgallery.com