إنّها سيرة كائن بلا اسم ولا ملامح، يبذل مجهوداً خرافياً ليعيش فقط! «سمّ بدون كوليسترول» عمل خلاسي لا يحترم حدود الأجناس، يقلب المعادلة القمعيّة، محاكماً المجتمع من خلال شخصيّة سارد
يستبطن الأنوثة والذكورة
ياسين عدنان

هل فشل عبد السلام المودني في كتابة روايته الرابعة؟ بعد «الدخلاء» و«أتون التيه» و«شفاء الآهات»، لم يتمكن الكاتب المغربي الشاب من توصيف عمله السردي الجديد «سمّ بدون كوليسترول» (دار سعد الورزازي للنشر) على أنّه رواية. لذا، فضّل تقديمه للقراء باعتباره نصوصاً سردية. نصوص منفلتة متمردة على أنماط السرد المألوفة. من المجازفة قراءتُها كقصص قصيرة رغم أنّ المودني جرَّب سابقاً الاصطياد في المياه الإقليمية للجنس القصصي، وكانت الحصيلة مجموعته «بقايا».
لكنّ هيمنة صوت واحد لنفس السارد على مجموع نصوص هذا الكتاب تجعله بعيداً عن القصة وقريباً من الرواية. إنما مرة أخرى، لا تتنامى الأحداث بالإيقاع نفسه الذي يجب أن تتلاحق به في الرواية التي تحترم جنسها. في كتاب عبد السلام المودني المفتوح وغير المتماسك، ما من أحداث أصلاً. كل ما نعثر عليه بين دفّتي هذا الكتاب: أحلام وكوابيس، رؤى وتهيؤات. أما ما يشد هذه الأنفاس السردية المتقطعة والمتوترة إلى بعضها، فهو السارد الذي يحافظ على الصوت نفسه، والنبرة والمزاج، منذ النص الافتتاحي «في حضرة موتي»... حتى الفصل الأخير «في حضرة كوابيسي». ياء المتكلم هذه التي تتكرر في عناوين كل نصوص الكتاب، تبدو ديكتاتورية لا تسمح لأيّ «أنا» أخرى، صديقة أو جارة، بالوقوف إلى جانبها فوق منصة السرد، أو أن تقترح عليها وعلينا وجهة نظر أخرى للعالم والناس. «أنا» ساردة قلقة ومتوترة، تحكي على امتداد نصوص هذا الكتاب فصولاً من سيرة كائن بلا اسم ولا ملامح يبذل مجهوداً خرافياً ليعيش. فقط لكي يعيش ويستمر في النوم والاستيقاظ والذهاب من البيت إلى مقر العمل من دون مشاكل.
لكنّ المشكلة هي أنّ هذه الذات التي نصَّبت نفسها سيدةً للحكي في «سم بدون كوليسترول» ليست قوية ولا جبارة كما قد يتبادر إلى القارئ لأول وهلة. بل هي ذات مسلوبة الإرادة، مدمرة، منهارة، مسحوقة، مُهانة، ومُنكَّل بها من العالم والناس. وهي هنا فقط لتتعرى وتستعرض عاهاتها وأعطابها وأقنعتها... في مرآةٍ صداقتُها غير مضمونة. إذ ما إن يحدق السارد فيها حتى يصاب بالذعر. فالوجه الذي ينجلي أمامه يبدو غريباً عنه، مُستوجباً للحذر.
في «سمّ بدون كوليسترول»، يبدو العالم السردي غريباً ومختلاً: فتاة حامل في شهرها الخامس عشر، أب يغتصب ابنته وهي بعدُ في بطن أمها، امرأة تخون زوجها مع ابنها البكر، زوج مقهور كل ليلة تغتصبُه زوجته بوحشية، حمَّام عنيف متوتر لا يلجه السارد إلا بعد أن يتأكد من أنّ مزاجه قد تحسن. أما صاحبنا فمسالم إلى حدّ لا يحتمل. يكفي أن يشعر بأن ملابسه متسامحة مع جسده ليفرح مثل طفل ويشعر بالأمان. أمان غير مضمون في المجتمع النسائي المتسلط الذي يعيش فيه. منذ البداية، سيجد السارد صعوبة في مواجهة المرأة ليلة زفافه. رغم أن والده سيقوم بمجهود جبار لتأهيله لتلك اللحظة المصيرية: «كن زوجاً طيّعاً حبيبي. لا تُغضب زوجتك. واحرص على رعايتها في غيبتها كما في الحضور. غضّ الطرف عن مغامراتها ونزواتها العابرة. فالمرأة تكره الروتين. لذا، حاول أن تفاجئها دوماً بالجديد... ساعد امرأتك في ليلتك حبيبي. عندما تشعر أنّها قريبة منك، تمدّد على السرير. استرخِ، وانزع سروالك ببطء...». لكنّ السارد المرعوب والمغلوب على أمره سيردّ قائلاً: «لا أبي، أنا خائف من هذا الكائن الذي يرتمي فوق عجزي وضعفي بكل جبروته وشبقه».
لكنّ الزواج سنّة الحياة التي لا رادَّ لها. لذا سيفاجئنا السارد في الفصل الموالي متزوجاً يعيش مع زوجته وطفلته ـ التي لا تشبهه ـ داخل شقة صغيرة هادئة: «شقتي صامتة إلا من تأوهات خافتة تنبعث من غرفة النوم. أتقدم بحذر. أفتح الباب قليلاً. زوجتي ورجل أسود يتصارعان فوق سرير زواجنا. أثق كثيراً بها، وأعلم احتكاماً لعشر السنين الماضية أنها ستصرعه... أفتح باب ابنتي ذات الثماني سنوات، ألفيها تقف عارية أمام جهاز حاسوبها تستعرض جسدها. أرفع يدي معتذراً. لم يبد أنّها لاحظت وجودي. أخرج صاغراً. النوم يطلبني ولا صديق يؤويني في هذه المدينة العابسة. النوم في الفنادق ليس من عادتي. سأتدبر مكاناً أرقد فيه مهما كلّفني الأمر».
هكذا تصير المشكلة الحقيقيّة والملحّة هي إيجاد سرير ينام فيه، بعدما احتل رجل آخر زوجته وسريره. وقارئ هذا الكتاب سرعان ما سيجد نفسه تحت تأثير منطق السارد. يجرب أن ينظر إلى العالم بعينيه، وبروحه المتسامحة، ولو لبضع صفحات. ويعيد تركيب العلاقات من جديد، حسب منطق هذا الضحية المتصالح مع دوره كضحية. منطق أقامه عبد السلام المودني في هذا العمل على أنقاض الواقع، قيمه وعلاقاته. ليسخر من هذا الواقع المختل ويستهزئ به ويحاكمه، لكن بتسامح غريب وبراءة لا تُحتمل.
في «سم بدون كوليسترول» يكاد الجنس يضيع تماماً. جنس هذه النصوص التي تقترح نفسها على القارئ باعتبارها أنفاساً سردية متلاحقة، مشدودة إلى بعضها بعضاً بخطوط واهنة، في عمل خلاسي لا يحترم حدود الأجناس. وجنس السارد. جنس البطل. جنس هذه الشخصية الطريفة التي تستبطن الأنوثة والذكورة معاً. إنّها شخصية مُبتكرة، من خلال استعراض بعض فصول سيرتها الغرائبية، يحاول عبد السلام المودني محاكمة المجتمع الذكوري الذي يحتقر الأنثى وقيم الأنوثة. لكنّ الكاتب سينجز مهمته من دون شعارات ولا زعيق، كما اعتادت النسويّات المحترفات أن يفعلن... إذ يلجأ إلى قلبٍ طريف للأدوار. عمل ممتع يصرّ السارد على التأكيد، في صفحته الأخيرة، على أنّ الأهم بالنسبة إليه هو ألا تتبلد أحاسيسه، فيصير ماكينة تنضمّ إلى قطيع الآلات الذي نعيش وسطه. هذا القطيع الذي يشبه البشر، من دون أن يكون أفراده قد جرّبوا، ولو مرة واحدة، معنى أن يكون المرء إنساناً.