حسين بن حمزةثمة استراتيجية قوية يتّبعها غسان جواد في القصائد الأولى من مجموعته الثالثة «ضوء بين حياتين» (دار النهضة). ينبغي ألّا نقول «يتّبعها»، لكي لا يبدو الأمر على هذا النحو من القصدية المفرطة والتخطيط المسبّق. الأفضل أن نقول إن هناك روحية واحدة، أو مزاجاً متقارباً، يجول في جسم هذه القصائد. لعل أكثر تجليات هذا المزاج حضوراً وتكراراً يتمثل في التركيز الشديد على تقطيع القصيدة وإخضاعها لمونتاج لغوي مستمر. بحسب ذلك، سيكون السرد والتدفق والانسيابية مجرد إيهام خارجي، بينما القصيدة، في الواقع، هي نشاط مستمر لكسر هذا الإيهام. أي إنّ الشعر يتقدم عبر ممانعته للتدفق والسرد بمعناهما القصصي والنثري التقليدي. السرد الذي نلمسه في القصيدة ناتج من مثابرة واعية على العمل ضد السرد الاعتيادي الذي يجعل كل سطر مربوطاً، نحوياً وشعرياً، بالسطر الذي قبله وبعده. لنقرأ: «الضوء وجه المستيقظ/ كان في شمس لا تتسع للأمنيات/ المستقبل مزيد من الأحداث نفسها/ لكنه حين جف شعره/ انطلق كالنظرات/ راح يسابق أبواق الصوت/ أنصتَ للانبعاث الجارف/ تصرّفَ كغيمة/ نهض ليخرج/ شيءٌ ما وأقطفُ هذا النهار/ أحصدُ لوحة قمح وراء ظهري/ أوجّ مثل هاتف يرنّ/ أنهدم مثل قميص على جسد متعرق/ يا لسرعتي محمولاً على ذراعين/ بيتٌ وزوجة وأولاد/ استحمام صباحي/ والهواء يلفح النقطة الساخنة في الجسد». في هذا النوع من الكتابة، يجري الانتقال بشكل مباغت بين الضمائر التي تارةً تعود إلى الغائب وطوراً إلى المتكلم. الشعر، هنا، لا يُصنع من استعارات كاملة وصافية. الشاعر يكتفي بصناعة مشاهد متتالية كمن يقلّب المحطات في جهاز تلفزيون. لكنّ غسان جواد سرعان ما يتخلّى عن هذه المزاج، أو يتخفّف منه، لينجز قصائد أخرى تتوافر على سرد عادي. إنما في الحالتين، يكتشف القارئ أن مهمة الشاعر، في النهاية، تكمن في خلق سياقات شعرية لما يكتبه بصرف النظر عن المزاج التأليفي الذي تدين له القصيدة بتأثيرها وجودتها.
نسوق هذه الملاحظات للإشارة إلى أن ثمة تقنيات وميولاً مختلفة عما عهدناه في مجموعتي غسان جواد السابقتين. ثمة نقلة أسلوبية في شغله الحالي. نقلة تقرِّبه أكثر فأكثر من نبرة شديدة الحضور في الشعر اللبناني. نبرة تميل إلى استخدام لغة مسنّنة ودقيقة وشرسة أحياناً. لغة تتجنّب الرخاوة العاطفية والبلاغية لمصلحة عبارة مقتضبة تنتمي إلى معاجم الحياة الحديثة وظواهرها الأكثر راهنية. وهو ما نجده بقوة في تجارب عدة، نذكر منها فادي أبو خليل، شارل شهوان، يوسف بزي، فيديل سبيتي.
في هذا السياق، يمكن تذوق مجموعة غسان جواد الجديدة، واستقبالها بشكل لائق أكثر. ويمكن القول إن الشاعر يحاول الابتعاد عن طراوة البدايات في مجموعته الأولى «وأنا ظلك»، والبناء الذكي في مجموعته الثانية «تمرين على الاختفاء».