أنسي الحاج احتقار الذكاء والحياة
السؤال ليس كيف حصل ذلك، بل كيف يستطيع المسؤولون عن هذا الوضع البقاء غير مبالين بالدمار النفسي الذي يحلّ بالناس.
جوّ يبّسه الحقد، والطراوة الوحيدة فيه بين الوقت والآخر، دم مسفوك. والذين يتكلّمون عن حوار أو يزعمونه، كذّابون. يقولون حوار ولكنّه سفسطة وتسديد فواتير. وإذا ارتفعت النبرة فللشتيمة. لم يُستهتر بالرأي العام، فضلاً عن حياة الإنسان، كما يُستهتر منذ أول انقلاب عسكري شهده العالم العربي حتى اللحظة. لم يُحْتَقَر الذكاء كما يُحْتَقَر في خير أمّة أُخرجتْ للناس. ليس في العواصم العربيّة سلطة إلاّ دعامتها القمع، القمع وأميركا وإسرائيل، القمع والرشوة. وعوض أن يقوم المثقّفون ببعض واجبهم حيال ذلك، أي بفضح الواقع، ينقسمون مثل سائر الأزلام، هذا مع سوريا وإيران وذاك مع السعوديّة وأميركا، ولا أحد يبالي بأنّ هذا هو الفخّ.

أسوأ الحالات تلك التي لا يعود فيها المرء إنساناً، بل وعاء لفكرة. لا أحد يرى أننا رجعنا إلى حيث انتهت مجتمعات كثيرة قبلنا، انتهت وزالت من الوجود.
وسط هذا الجوّ العابق بصور النهاية ـ كل طرف يظنّها نهايةَ عدوّه ـ مَن يستطيع القول إنه ليس مَصْدراً لخوف الآخر؟ لا بل أضحى ذلك موضع تفاخُر. كابوس كهذا ليس بيئة للحياة. الكابوس ليس فقط بلاداً في أفريقيا يموت ناسها مرضاً وجوعاً، بل أيضاً بلاد كلبنان وفلسطين والعراق يموت أهلها، إن لم يكن اغتيالاً فيأساً وقهراً.
وأيّ كلام هو مجرّد كلام حين يسقط العقل، وقد سقط العقل.
وهنا، في بلدنا الصغير حتى الحساسية المَرَضيّة، ليس بإظهار حقّ هذا في وجه ذاك يكمن أمل في حلّ، بل بشجاعة التضحية، مهما كان في شعار كهذا من باعث على الضحك. ولنفترض أن المحكمة الدوليّة (وقد بات تأخيرها أقرب إلى تأخير الجراحة أملاً في موت المريض) توصّلت بعد حين إلى نتائج حاسمة، فلن تكون تلك نهاية بل بداية: إمّا بداية لانفجار الفوضى تعميةً وتغطية، وإمّا بداية لطي صفحة النقمة والخوف وترك المجرمين لمصيرهم وبلسمة جروح الأحياء.
وسيكون ذلك بحاجة إلى حقيقة من نوع آخر: من نوع الغفران هنا والانكسار هناك...


كتاب مي ضاهر يعقوب
«أنت تُنيرني وأنا أنير لك»، قول لعبد الله العلايلي أوردته مي ضاهر يعقوب في كتابها الصادر حديثاً «الإنسان والله: الأسئلة الكبرى». وتنقل عن الشيخ العلاّمة قوله أيضاً: «الخط النوراني ممتدّ في كل الشرق وليس وقفاً على مكان أو أمّة. وإلاّ يمكن القول «ضيّقتَ واسعاً يا أخا العرب». هناك شريعة زرادشت. وما قبله لدى البراهمة. الفيدا تعني اليقين أو الحكمة، وهي أقدم من كل الأفكار الدينيّة».
ومن موضوع إلى آخر، جاءت مقابلات مي ضاهر يعقوب مع العلايلي، ذلك الرجل لكل الأديان، غنيّة وكاشفة، حملت خلاصة حكمته بعد العمر المديد. من مستغرباته كتاب له عن داهش، صاحب الخوارق الشهير. قال لها مفسّراً: «كان داهش صديقي (...) والصداقة لا تتعلّق بالأفكار بل لها شأن آخر (...)، دون ريب أن الإنسان يمكن أن يحقّق خوارق من خلال السموّ بالذات (...)، أنا رأيت أشياء لدى داهش رويتها كما رأيتها. الذين كانوا يحيطون بداهش صوّروا له أنه نقطة التقاء روحيّة على الأرض، وأنه مثل مجمع التيّارات الكهربائية كلّها. هذه الأمور دغدغت كبرياءه الداخليّة وتبنّاها فقضت عليه».
وتحدث عن إعجابه بفكر أنطون سعادة، ورأى في أسباب إعدامه أنها «تيار فرنسي خبيث نتيجة صراع إنكليزي ـ فرنسي. فما دام سعادة موجوداً تهيّأت سوريا الكبرى، وهذا أمر أدّى إلى مصرعه. فالإنكليز ألّفوا حكومة الاستقلال الأولى من بشارة الخوري ورياض الصلح، وكانوا يخاصمون كل مَن لا يسير في هذا التيار الأنكلو سكسوني. لكن بشارة الخوري والمنظّر السياسي للعهد ميشال شيحا وغيرهما انقلبوا إلى التيّار اللاتيني ـ الفرنسي. أضعفوا التيّار الأول كلّ الإضعاف ليمشي التيّار اللاتيني. هذا التيّار عصف بكل ما يعني الحزب السوري القومي فأخذوا رئيسه كرمز من رموزه».
ويتواصل كلام العلايلي أخّاذاً بشموله، مريحاً بانفتاحه وعمقه. وتنتقل بعده مي ضاهر يعقوب إلى الجوس في أرض الإيمان ودروب الأديان، عبر مقالات متنوّعة، «ولن تكون أبداً خاتمة لقضايا مفتوحة على العقل البشري الحرّ» كما تنهي حقّاً كتابها.


ألف ليلة وليلة
تُعلّمنا حكايات ألف ليلة وليلة أن براعة شهرزاد في تشويق شهريار لمتابعة قصصها يوماً بعد آخر، أنقذتها من الموت. كانت تعلّق قرار إعدامها عند الصباح حين تقول للملك إنها تعبت وترجوه أن يبقيها حيّة إلى المساء لتكمل له الحكاية. في ذلك سرّ أنوثة تُحسن إدارة إغرائها بمثابة المخدّر.
وفي الوقت نفسه، قد ننسى أن ألف ليلة وليلة تعلّمنا أن حيلة المرأة في استثارة الرجل لم تنقذها وحدها، بل أنقذت أيضاً الرجل، لا من قتل النساء عند الصباح بل من جفاف خياله، ومعه قلبه. من رجل مسكون بمرارة الواقع تحوّل شهريار إلى مكان مسكون بخيال امرأة.
شهرزاد هي حوّاء التي تغلّبت على اتهامها بالخطيئة، محوّلة هذه الخطيئة إلى أسلوب خلاص وينبوع فرح.
لقد أسعد هذا الكتاب ملايين البشر عبر العصور، ومؤلف أصوله أدّى للمرأة أجمل مديح عندما وضع هذا البحر من السحر على لسانها، فأصبحت في المخيّلة الشعبية مرادفاً للمتعة والشوق والمغامرة والحريّة، مع بقائها لغزاً لا يكشفه نهار ولا يستهلكه ليل.


وطأة
حتى الثّقل في الموسيقى أخفّ من الخفّة في أيّ شيء آخر. قد لا يكون بين الأوزان الضخمة أثقل من موسيقى فاغنر، ولكن حياتنا الحديثة تبدو حيالها أثقل من الدبّ. حياة تتخفّف وسائلها وتتباهظ محتوياتها، مرهقة ودهنيّة، لزجة مخضرّة مثل أزقّة الجريمة.


معاً
ينفي العلماء وجود زمنين متواقتين أو وقتين متزامنين. كيف نفسّر، إذاً، حصول أمر خطير لشخصٍ ما قبل الأوان، وفي الوقت ذاته بعد فوات الأوان!؟...


من إليوت
يَسألُ عن صفات تُرْغَب في أدب ما. الجواب كثير، ويمكن اختزاله بكلمتين أستعيرهما من محاضرة ألقاها إليوت في جامعة هامبور عام 1955 عن غوتيه: الديمومة والكونيّة. وكان يشير بالتحديد إلى المقياسين اللذين يراهما واجبين للشعر.
أن تظلّ آثار الكاتب مصدر متعة واهتمام للقرّاء في جميع الأجيال، فلا ينحصر دوره في الإطار الزمني لنشوئه، حتّى لو فهمه كل زمن على هواه وبنحو مختلف عمّا فهّمه إيّاه أو تذّوقه (أو لم يفهمه ولم يتذوّقه) زمن سابق. أمّا الكونيّة، أو العالمية، فليست في سعة الانتشار (وقد يكون في هذه ما يُريب) بل في تنوّع الانتشار واختراقه حدود المكان والعرق والثقافة.


عابرات
■ عندما تنطفئ الرغبة هنا، تضيء في بيتها الدائم بين النجوم.
■ الطبيعة مرعى الروح، لكنّ للطبيعة أيضاً روحها، وروح الطبيعة مرعاها نحن، نحن والحيوانات وتلك الصخور والأشجار والأعشاب وروّادها من الغيوم الخفيفة الأخلاق.
■ الصدى حريق الصوت.
■ مَن يُصدّق؟ لا يتبقّى لغَلَيان الذهن، من مواسم الإثارة، غيرُ صُوَر البراءة وهي تَعْبث، وبالكاد تعرف أنّها تَعْبث!
■ لا يستطيع العاشق أن يحمي نفسه من الفشل ما دام الحبّ يدفعه دفعاً إلى منح معشوقه الطمأنينة.
■ في الجسد غددٌ بنّاءة لا تُحرّكها إلاّ نوازع الشرّ.
■ عندما تداعب يداً أو جبيناً وتشعر بالألفة لا بالهلع، فمعنى ذلك أن صاحبهما لن يَعْصف بحياتك.
وإذا مررتَ بيدكَ على خشب طاولة مروراً رئيفاً، فلن يعرف أحد، لكنّ الطاولة سوف تتذكّرك بعرفان جميل...


«حتـى الليـل رائـع»
■ «الأفضل أن لا يكون شيء، لأنّ كلّ ما هو كائنٌ يستحقّ أن يُدمّر». (إبليس في «فاوست» غوته).
■ «أوّل أهداف الفلسفة معرفة العَدَم المُطْلَق». (هيغل).
■ «ما أحكيه، هو قصّة القرنين المقبلين. أَصفُ ما سيجيء، ما لا يمكن إلاّ أن يجيء: حلول العَدَميّة (...) كلّ الآذان مشدودة منذ الآن إلى هذه الموسيقى الآتية». (نيتشه).
■ «العدميّة هي الحركة الكونيّة لشعوب الأرض المُبْتَلَعة في فَلَك سلطان الأزمنة الحديثة». (مارتان هيدغر).
■ «الديموقراطية الحديثة لا تستطيع أن تكون إلاّ عَدَميّة (...) الديموقراطية، بمعنى اتخاذ القرار بالأكثريّة، هي في ذاتها عَدَميّة لأنّها، بهذه الطريقة، تقسّم السياسة والحقيقة شقّين». (جياني فاتيمو).
■ «حلّ اللغز، هو أنْ لا لغزَ هناك». (وتغنشتاين).
■ لا إليوار ولا أراغون، لا شار ولا سان جون برس تغنّوا بالعبث أو العدم، وفي هذا إشارة خطيرة. الشاعر يغنّي العالم، كمالَهُ، ولو فاجعاً، حضورَهُ المطْلَق... دوماً يغنّي بلاغةَ الواقع. «الوعي المشرق، يقول رونيه شار، هو الجرح الأقرب إلى الشمس»، وحتّى الليل رائع. لا بدّ أن يكون المرء شديد الجنون، وكم ضئيل الشاعريّة، حتّى يفضّل الغياب الغامض والباطل!». (أندريه كونت ـ سبونفيل).