إشراقات الجاز بين الهدوء الإسكندنافي ولهيب الشرق
عرفه العالم عبر Electric Sufi التي كرّست نمطاً موسيقياً جديداً. عازف العود والمغنّي التونسي المقيم في النمسا، يزور بيروت للمرة الثانية بدعوة من Liban Jazz، ليلقي بـ«ظلاله الإلهيّة» غداً على صالة الـ«ميوزيكهول»

بشير صفير
ضيف خاص يعود إلى بيروت هذا الويك إند. إنّه ظافر يوسف. فنان يقف على حدة بين معاصريه، بفضل تجربته المميزة فوق خريطة «موسيقى العالم». فإذا كان المشهد الموسيقي العالمي لم يشهد تجديداً يُذكر، على اختلاف التجارب التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين، فإن ظافر يوسف، هو بلا شك من الاستثناءات القليلة في هذا المجال. معظم التجارب الجديدة التي شهدناها كانت عبارة عن محاولات ضمن قوالب موسيقية معروفة، نجح أصحابها أحياناً في إنتاج مادة جيدة تضاف إلى الإرث الموسيقي. أما عازف العود التونسي والمغنّي الصوفي الذي يلتقيه الجمهور اللبناني غداً، فهو بين فنانين قلائل خلقوا مساراً موسيقياً جديداً، ورسموا خطوطه العريضة، وطوروه إلى مدرسة يمكن أن تتفاعل معها الأجيال اللاحقة.
أصدر ظافر يوسف أخيراً أسطوانة جديدة بعنوان «توهّج» Glow، بالاشتراك مع الموسيقي النمساوي فولفغانغ موتشبيل (راجع البرواز)، وها هو في بيروت للمرّة الثانية، بدعوة من «ليبان جاز» (كريم غطّاس)، حيث يقف مساء غد الأحد على خشبة الـ«ميوزكهول»، ليحيي مع فرقته حفلةً واحدة مستوحاة من ألبومه ما قبل الأخير.
يصح القول إنّ ظافر يوسف «اجتهد» في مرحلة من مسيرته الفنية، و«اشترع» صوتاً جديداً وامتلك ريادته. لكنّ تجربته لم تنطلق من آلة العود الذي يصعب فتحه على آفاق جديدة، بعد إنجازات عمالقة عبَروا في تاريخ هذه الآلة، مستنفدين فيها احتمالات التطوير والتجديد. كما أنّه لم يحدث ثورةً في الغناء الصوفي أو التجويد، ولم يطوّر برنامجاً في مجال الصوت الإلكتروني، ولم يبتكر فرعاً جديداً يضاف إلى عالم الجاز. ماذا إذاً؟ لقد استند ظافر يوسف إلى عقل موسيقي منفتح، وثقافة عالية، ساعياً إلى التقاء عوالم متباعدة. وهذا النسيج الفنّي توافرت فيه وسائل عدّة، سمحت في جعل مساكنة الأضداد أمراً ممكناً وقابلاً للاستمرار.
ولد ظافر يوسف في تونس عام 1969، وترعرع في كنف عائلة فقيرة لم يكن من أولوياتها تدريس أبنائها الموسيقى. تعلّق بالغناء الصوفي منذ الصغر، ومنها راح يتلهف لسماع أي موسيقى يلفظها جهاز الراديو. كما أحب الجاز وقتذاك، من دون أن يمتلك معرفة باسم هذه الموسيقى التي تحرك مشاعره. لم تقف الأحوال الصعبة دون تحقيق غايته في أن يعتنق الموسيقى والغناء، بل قام بصناعة آلة العود بنفسه، لتصبح الرفيق الحقيقي لصوته المعجزة.
أواخر الثمانينيات انتقل الفنان الشاب إلى النمسا، حيث عمل في مهن شاقة ليتمكّن من دراسة الموسيقى. في فيينا تعرف إلى موسيقيين من العالم أجمع، اجتمعوا في المدينة التي جذبت قبلهم موزار وبيتهوفن. وبعد تجارب في العزف الحي بمشاركة موسيقيين أصبحوا زملاء في مشروعه الموسيقي الكبير، سجّل ظافر، عام 1999، أسطوانته الأولى «ملاك» التي لاقت شهرة عالميّة واسعة، وأطلقت نمطاً موسيقيّاً جديداً... وأعطت صاحبها الهوية الفنية التي ستكون الحجر الأساس في أعماله اللاحقة.
لقد أدرك المغني التونسي، في وقت مبكّر، أنّه لن يكتفي بأن يكون مؤدياً تقليدياً. صوته الجميل والقوي كان يدفعه حتماً لأن يصبح مغنياً صوفياً أو مرتّلاً. لكن، أي إضافة كان سيحملها إلى فنون الغناء الصوفي ـ أو حتّى التجويد القرآني ـ التي تزدهر على يد معلّمين كبار في العالم العربي، من تونس إلى مصر؟ هكذا ولد رهانه الجريء: لقد عصَرنَ ظافر الغناء الصوفي وعولَمَه (بالمعنى الإيجابي للكلمة)، وقدّمه في صورة يفهمها الغرب ويتقبلها الشرق.
لكن ماذا نسمّي هذا النمط الموسيقي الجديد الذي ابتكره؟ قد يكمن بعض الإجابة في عنوان الألبوم الثاني الذي واصل ظافر يوسف، ما كان بدأه في «ملاك»: Electric Sufi (2002)، أو «الصوفية الكهربائية» هذا العنوان ينطبق تماماً على مشروعه الفني. التسمية صائبة مئة في المئة مع إمكان تعديل بسيط يستند إلى مادة الألبوم، إذ تصح أيضاً تسمية Electronic Sufi أي «الصوفية الإلكترونية». وهذا الألبوم من أنجح الأعمال التي أصدرها المؤلف التونسي حتى اليوم، شاركت فيه مجموعة من الموسيقيين الآتين من إثنيات وثقافات موسيقية متعددة، تنوعت بين الجاز الأوروبي والموسيقى الإلكترونية والموسيقى الهندية.
بعد هذا العمل، مال ظافر يوسف أكثر فأكثر نحو الصوت الإلكتروني على حساب الجاز، محافظاً على محور اللعبة الأساسي: الغناء. هكذا ولد ألبوم Digital Prophecy أو «نبوءة رقمية». وكانت للجمهور اللبناني فرصة لقاء أول مع الموسيقي التونسي، بعد انتشار أسطواناته الثلاث، إذ شارك في مهرجان «ليبان جاز» وكان لا يزال عند بداياته. قدّم يومذاك مع فرقته حفلة وحيدة على مدرج زوق مكايل، ندِمَ مَن لم يشاهدها، معتقداً أن بوسعه الاكتفاء بالألبوم المسجّل. فيما يمكن اعتبار تلك الأمسية، عملاً مستقلاً، رغم أنّه مستوحى بشكل مباشر من Digital Prophecy.
ثم جاءت أسطوانته الرابعة Divine Shadows (ظلال إلهية). حافظ فيها ظافر على التركيبة العامة لفرقته، ولو أن أسماء تبدلت أو أضيفت، من دون أي تغيير في التوجّهات الموسيقية العريضة. لكن ثقافته الواسعة دفعته إلى إشراك رباعي وتريات كلاسيكي في الأداء، لتُدخل بذلك عالماً جديداً إلى عالمه التي يتكون هو الآخر من فضاءات عدة. الرباعي هذا من أوسلو، بينما تألّفت فرقة يوسف بمعظمها من أسماء اسكندينافية ضالعة في تيار الجاز المتنامي في شمال غرب أوروبا. هكذا أتى الألبوم محمّلاً مناخ تلك المنطقة، وهو مناخ طالما أثر في الموسيقى الاسكندينافيّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع أبي الموسيقى النروجية، جان سيبليوس. كل ذلك أعطى أعمال ظافر يوسف نكهة إكزوتيكية، تجمع بين الشمال البارد والهادئ، والموسيقى الشرقية المحمّلة بالحرارة والرطوبة والحياة الشقية.
هذا هو الجو العام الذي تتمحور حوله حفلة الغد، رغم أن الفرقة المرافقة لظافر يوسف في بيروت (عود، غناء وإلكترونيات) ستغيب عنها الروح الكلاسيكية التي تمثلت برباعي وتريات في الأسطوانة.


20:30 مساء غد الأحد ـ ميوزيكهول: 01,361236
www.dhaferyoussef.com


السوبرانو يواصل رحلته التصاعديّة
بعد «ظلال إلهية»، يتابع ظافر يوسف مشواره مع العود والغناء الصوفي على دروب الجاز الأوروبي الحديث والموسيقى الإلكترونية، في أسطوانة «توهّج» Glow، شارك في تأليفها الموسيقي النمساوي فولفغانغ موتشبيل.
يضمّ هذا العمل عشر مقطوعات، يتخلل معظمها أداء صوتي أو غنائي. وقد تشارَك الموسيقيَّان في وضع خمس منها، فيما انفرد ظافر في تأليف إحداها، والأربع الباقية من تأليف موتشبيل. أما الأداء، فتولّته مجموعة موسيقيين إلى جانب غناء ظافر يوسف وعزفه على العود. وقد عزف فولفغانغ على الغيتارات والفيولون والفندر رودز، كما برمج بعض الأصوات الإلكترونية المضافة إلى المادة الموسيقية العضوية. وتكاد تكون هذه الأسطوانة الأكثر تنوّعاً وغنى مقارنة بسابقاتها. إذ نقع فيها على أنماط عدّة تشكّلت منها تجربة ظافر القائمة على الإلكترو ـ صوفية، وغرف منها إضافاته إلى الجاز الأوروبي الحديث. فهنا نجد استعارات عابرة من الغناء الديني الباكستاني، وهناك يطالعنا أداء صوتي من دون كلام (فوكاليز)... وأحياناً نقع على التفاتة إلى الإلكترو ـ جاز المناخي، أو الهلوسة الإلكترونية، أو يأخذنا حوار هادئ بين العود والغيتار، أو تجرفنا إيقاعات أفريقية عابرة... وتتعدد مستويات الغناء من الابتهال الصوفي والمديح الديني إلى الهمس الدنيوي. تلك المكوّنات وسواها ترفد حالات الانخطاف التي يدعونا إليها صوت ظافر يوسف. هذا الصوت بإمكانه حقاً أن يختصر الأسطوانة. في هذا العمل، يؤكد ظافر يوسف قدراته الصوتية العجائبية، ويصل في بعض المحطات إلى مستويات قد تكون الأعلى مقارنة بكل ما غنّاه قبلاً. في إحدى جمل مقطوعة «بابل»، على سبيل المثال، يخيّل للمستمع أن الفنّان وصل إلى أعلى نوتة من طبقته الصوتية العالية التي باتت أصلاً في مجال السوبرانو (الصوت الرفيع عند النساء أو الأطفال)... وإذا به يفاجأ أكثر من مرة، بأنّ ما اعتقده قمة ليس سوى مسند موقت للانطلاق نحو طبقة أرفع ونوتة أعلى!


أسطوانة Glow ـ ظافر يوسف وفولفغانغ موتشبيل ـ إنتاج Material Records