«حضارة» أو المسرح اللبناني في جحيم «التشينك»بعد طول غياب، يعود الثنائي غبريال يمّين ورندا أسمر إلى الخشبة، في عمل جديد تشاركهما فيه سنتيا كرم وإيلي متري. مسرحيّة «حضارة» قائمة على المقالب والمفارقات. ماذا يبقى من «إنسانيتنا» وقدرتنا على التواصل، في الجنّة الاستهلاكيّة المحاصرة بآلات معطّلة وأصوات إنذار غامضة؟بيار أبي صعب
إذا كنت من الذين أحبّوا مسرحيّة الثنائي غبريال يمّين ورندا أسمر «النشيد»، قبل ثلاث سنوات... فأوّل ما ينبغي عليك فعله، هو أن تتخلّص من كل أفكارك المسبقة، وتتهيّأ نفسياً لمشاهدة عملهما الذي يعرض هذه الأيّام على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت، كأنّك تنتقل من كوكب إلى آخر. لحسن الحظ ربّما، فهل نطلب من الفنّان أن يعيد إنتاج المناخات نفسها والرؤيا نفسها مع كل تجربة؟
ليس الانزلاق من الاحتفال الطقوسي إلى الكوميديا السهلة هو ما يميّز عرض «حضارة» الذي اقتبسه غبريال يمّين عن نصّ للبريطاني مايكل فراين (راجع البرواز)، وأخرجه، ويشارك في تمثيله إلى جانب رندا أسمر وسنتيا كرم وإيلي متري. بل لعلّ الرؤيا الفنيّة المضمرة للمسرحيّة الحاليّة، أقلّ دسامة وقدرة على محاصرة المشاهد داخل مناخات خانقة وسوداويّة كالتي استدرجَنا إليها ـ قبل أعوام ـ ذلك الثنائي الصامد، الماضي في انسحاقه وانهياره، يؤدي النشيد الوطني حتّى لحظة الغرق، وسط عالم قمعي بلا منافذ (تلك المناخات استعارها يمّين وقتذاك من عوالم الكاتب المجري جورجي شويدا )...
«حضارة» مسرحيّة من أربع لوحات، تراهن على المفارقات المبالغ فيها والمواقف المضحكة التي تضخّم عيوباً اجتماعيّة وأمراضاً ثقافيّة ونفسيّة، هي من سمات زمننا الحاضر. لكن الخطاب (الجمالي والفكري) قد يبدو هنا أقل تماسكاً ونضجاً، أو لنقل أقلّ قدرة على التأثير (من دون الاعتماد على القفشة أو «المقلب» الكوميدي)، وعلى اختراق وجدان المتلقّي ومخاطبة وعيه. كل شيء واضح ومفهوم ومتوقّع في تلك المشاهد الميكانيكيّة التي يتألف منها العمل الجديد، ما يحدّ من الدهشة والانفعال... أما الخطاب حول استلاب الإنسان في العصر الاستهلاكي، وتحوّله عبداً لتلك الآلات ذات التقنيّة الفائقة التطوّر التي تحاصر حياته، فيبدو قديماً، ومستعاداً إلى ما لا نهاية، وخارج سياق اللحظة الراهنة، أي عاجزاً عن إقامة علاقات تفاعل وحوار وديناميّة معها. طبعاً ينحصر الكلام حتى الآن في خيار النصّ، فما كتبه مايكل فراين في مكان وزمان محددين، له هنا وقع مختلف، يبدو زائداً أو مقحماً. واختيار النصّ، أي اقامة علاقات حميمة معه، هو الحجر الأساس في العمارة المسرحيّة، ينعكس على الإضافات الإخراجيّة والابتكارات المشهديّة المختلفة، علماً بأن يمّين هو من المخرجين القلائل الذين نعرفهم في العالم العربي، ممّن يضعون فنّ الإخراج والتمثيل (وسائر التقنيات) في خدمة النصّ المسرحي، بدلاً من الاعتداء عليه والتلاعب به (من خارج أي منطق درامي) كما هي الحال، في معظم الأحيان، داخل لبنان وخارجه. غبريال يمّين يضع إمكاناته الإبداعيّة بتصرّف النص، يبني رؤياه الإخراجيّة ـ البسيطة والفعّالة ـ انطلاقاً من هذا النصّ (الملبنن برهافة) وليس على حسابه.
لذلك، يستحسن اعتبار «حضارة» مسرحيّة ممثلين، وبالإمكان والحالة هذه الاستسلام لمتعة أكيدة بعد تنازل المُشاهد عن متطلباته الأخرى. رندا أسمر تفاجئ في سعيها إلى المبالغة الكوميديّة التي تأخذها بعيداً عن أي واقعيّة. وسنتيا كرم تنضح بطاقة مدهشة، وبخفّة نابعة من مقدرة تمثيليّة يمكن استغلالها بعمق في مسرح اللامعقول. وإيلي مترى أيضاً يتحكّم بالمواقف الكوميديّة، وينطلق في مشهد «المسجل الآلي» إلى ذروة انفلاته... أما غبريال يمّين، فوحده يحتفظ بهدوئه، يعتمد أسلوب اللعب الهادئ الذي يميّز أداءه غالباً. إنّه الرجل الطيب، الصالح ـ «الرجل الصغير» حسب فيلهالم رايش ـ يحتفظ بكراريس الإرشادات على استعمال الآلات الكهربائيّة والإلكترونيّة حتّى بعد أن تتعطّل ويرميها...
رجل وزوجته يستقبلان على العشاء ضيفان لا نعرف درجة الصداقة معهما. رجلان وامرأتان، كل مع هوسه وهواجسه... في جحيم «التشينك»... تلك الأصوات الغامضة التي ستروح تنبعث من كل مكان، ولا يعود بالإمكان التحكّم فيها. والآلات كلّها، في البيت وخارجه، ستعلن التمرّد وتخرج من نطاق السيطرة: من منبّه الفرن إلى المسجّل الآلي للتلفون والسنترال الذي يوزّع المكالمات، هكذا ستتحوّل السهرة كابوساً، المكالمات تضيع بين الغرف والطوابق، وجهاز الإنذار ينبعث من السيارة في الشارع، وكذلك إنذار البيت الذي نسي الرجل شيفرته السريّة... وينتهي الأمر بأخذ الضيفة إلى المستشفى بعدما عُطب أحد أطرافها.
هذا الخلل المحتمل دائماً في الـsytème (النظام) سيصبح هوّة شيطانيّة تبتلع الأفراد. كل الآلات التي تصنع «السعادة» والرخاء، تتحوّل إلى كابوس حقيقي. في اللوحة الأخيرة «المسجّل الآلي»، نتفرّج مذهولين على أربعة أشخاص عاجزين عن التواصل، تائهين في المدينة، يحاولون عبثاً أن يلتقوا، أو يتواعدوا، عبر ترك رسائل على جهاز التسجيل المتصل بهاتف المنزل. وهناك أيضاً رجل وامرأة في ملهى ليلي يحاولان التفاهم، لكنّ كلاً منهما يسمع ما يريد، ويخترع من سوء التفاهم حكايات وحقائق أخرى. وفي لوحة «ممنوع النظر» (rien à voir)، نجد أنفسنا على متن الطائرة، يمنع فيها على المسافرين النظر إلى المضيفات لمتابعة تعليمات السلامة التي تقترن بالإيحاءات الخليعة والخدمات الجنسيّة... دائماً هناك ما يفلت من سيطرة الفرد وينقلب عليه، ويتحوّل من وسيلة راحة وترف وتواصل واستجمام إلى استلاب وغربة وعجز عن التعبير والتواصل.
يلعب غبريال يمّين على المفارقات، يستعمل الفضاء ببساطة، كأنّه يحاول أن يرتفع بعمله الجديد من مجرّد كوميديا إلى مسرحيّة عبثيّة تنزّ منها سخرية باردة من العصر والعالم. لكن أدواته لا تسعفه هذه المرّة في الارتقاء إلى حالات التجلي التي وصل إليها مع رندا أسمر في «النشيد». نخرج من العرض بشعور غامض بالنقص، رغم الإتقان الفني وأجواء المرح التي تطمح إلى فضح خواء الروح في المجتمع الاستهلاكي.
«حضارة» إخراج غبريال يمّين، تمثيل مع رندا أسمر وسنتيا كرم وإيلي متري
الثامنة والنصف مساءً، حتى السادس من نيسان/ أبريل مسرح المدينة شارع الحمراء ـ بيروت: 01،753011


مايكل فراين بين المجازي والعبثي إنّه مايكل فراين، أحد أغزر كتّاب الدراما التلفزيونيّة والمسرح في بريطانيا اليوم. يسلّط عليه غبريال يمّين الضوء للمرّة الأولى في اللغة العربيّة حسب اطلاعنا. قد تكون مسرحيّة Alarmes (أصوات إنذار، ١٩٨٢) التي اقتبسها المخرج والممثّل اللبناني (عن الفرنسيّة)، من أقرب أعماله إلى الكوميديا، كوميديا المواقف والطبائع... لكنّ الكاتب البريطاني المولود في ضواحي لندن عام ١٩٣٣، اشتهر عالمياً من خلال نصوص تستعيد أحداثاً وشخصيات ووقائع تاريخيّة، يبني عليها خطابه الفكري والأخلاقي: «كوبنهاغن» (١٩٩٨) تقوم على التوثيق التاريخي، وعلى إلمام حقيقي بالعلوم والفلسفة. تدور حول زيارة قام بها العالم الألماني ويرنر هيزنبارغ المتورط مع النازيّة إلى تلميذه وزميله (اليهودي) نيلز بوهر في الدنمارك المحتل، لإقناعه بالانضمام إلى الأبحاث الألمانية عن القنبلة الذريّة. أما «ديموقراطيّة» (٢٠٠٣)، فتدور أحداثها في ما كان يعرف بألمانيا الغربيّة، بعد المستشار ويلي برانت في سدة الرئاسة، وتحكي صعود مناضل مغمور في الحزب الاشتراكي، هو غونتر غيوم الذي أصبح من أقرب مساعدي برانت، قبل أن يكتشف العالم أنّه جاسوس لحساب ألمانيا الشرقيّة.
درس مايكل فراين الفلسفة في جامعة كايمبردج البريطانيّة، وبدأ حياته في جريدة الـ«غارديان» اللندنيّة التي برز من خلالها بمقالاته الساخرة، كما ترجم تولستوي وتشيكوف عن الروسية التي تعلّمها خلال خدمته العسكريّة. وفازت «كوبنهاغن» بجائزة «توني أوورد» لأفضل نصّ مسرحي في عام ٢٠٠٠.