نجوان درويشمن مفارقات زمن الاحتلال أنّ القدس منذ أربعة عقود أرض محرّمة على العرب: فمن جهة، يمنع الاحتلال العرب من وصولها، ومن الجهة الأخرى تبدو فكرة رفض زيارة القدس وفلسطين عموماً وهي تحت الاحتلال فكرة راسخة عربياً. ولعل الموقف المصري ـ وخصوصاً موقف المثقفين ـ يقف في طليعة المواقف العربيّة في هذا الشأن. ويبدو أنّ ما سمّي «زيارة السادات للقدس»، وعقده «صلحاً» منفرداً مع إسرائيل وقتها، جعل لجملة «زيارة القدس» وقعاً مريباً في المخيّلة العربية... لم يتلاشَ حتى اليوم. لكنّ اللعبي لا يبدو معنياً بهذا السجال، فهو غير مؤمن بهذا المنطق من أساسه... ومن جهة أخرى، يبدو أنّ للساحة المغربية موقفاً مختلفاً من الأمر.
هذه المرة جاء اللعبي بصحبة رفيقة دربه جوسلين، المرأة التي حرّكت العالم أثناء اعتقاله في سجون الحسن الثاني حيث قضى ثماني سنوات. يومها تحرّكت حملة عالمية تطالب بإطلاق سراح الشاعر ورفاقه من المعتقلين السياسيين. وقد أطلق الثنائي على ابنتهما اسم «قدس» بعد سقوط المدينة. كتب عبد اللطيف إلى جوسلين من سجنه قبل ثلاثة عقود ونصف: «إمرأتي الحبيبة/ يدعونا الفجر للحضور/ يتواصل الصراع/ ويتفتح الحب/ وردة في حلبة العصيان/ يدي ترتعش/ كأني أرغب في بتر عضو من أعضائي/ لأرفعه قرباناً لك/ هذه اليد المنتصبة بالذات لتمحو وصمة العار/ نعم لأجلك أرفعها/ في غبطة العصيان». وجوسلين هي أيضاً مترجمة «البئر الأولى» سيرة طفولة الكاتب جبرا إبراهيم جبرا في بيت لحم، وصباه في القدس. وها هي تسير لأول مرة على أرض الصفحات التي ترجمتها. تبدو جوسلين محوراً أساسياً في حياة اللعبي وشعره ومعظم كتاباته: «طحلبكِ/ يتعرّف على شجرتي/ شجرتي/ تضيع في غابتك/ غابتك ترتفع في سمائي/ سمائي تعيد إليكِ نجومكِ/ نجومك تسقط في بحري/ بحري يهدهد زورقكِ/ زورقكِ يرسو على شاطئي/ شاطئي هو بلادكِ/ بلادك تبهرني/ فأنسى بلادي».
قوبل اللعبي بحفاوة بدت جليّة في الأمسيات التي أقيمت له. فالرجل يبدو معروفاً من خلال سيرته النضالية، كما أنّ «صورته» كسجين سياسي تبدو راسخة هنا. وقد حدث أن حضر أمسياته الشعرية بعض مَن تظاهروا في حملات إطلاق سراحه أيام كانوا طلاباً في باريس والقاهرة. بعضهم بحث عن صورة السجين، لكنه لم يجدها. فالرجل في ما يبدو صفّى حساباته مع تلك السنوات في كتبه، ويبدو اليوم إنساناً آخر لم يسمح للأسطورة بأن تسجنه. «الكتب التي تحمل اسمي لا أجرؤ على فتحها/ حتى لا تستحيل غباراً بين أصابعي». وعليه تصعب المطابقة بين كاتب الصفحات المؤلمة عن التعذيب في «مجنون الأمل»، وبين الرجل المرح وصاحب حسّ الدعابة الدائم وصائد
المفارقات.
بكلمات مقتضبة، استمعنا إلى اللعبي يردّ على كلمات المديح الطنان، والإنشاء الغنائي التي كالها مقدّمو أمسياته. وفي النقاش، بدا مخلصاً وحاداً وهو يجهر بأفكاره كما هي حتى وإن صدمت محاوريه... ولم يتصرف كضيف ولم يجامل. كان يسير في غبطة عصيانه على نار هادئة لعلها أساساً نار الحب وإيمانه بالإنسان الذي يبدو محور كل تجربته، منذ قصائده الحمراء أيام الشيوعية، في «وأزهرت شجرة الحديد» حتى تغنّيه الحسّي بـ «فواكه الجسد»... حياته التي لا يمكن فصلها عن كتابته، فهو يضع ذاته كلّها في ما يكتب. وهو من الذين تجعلنا قراءتهم أقرب إلى إنسانيتنا، والمعنى اللانهائي للحرية. وهذا بالتحديد هو الأثر العميق الذي تركه لدى كلّ من سمعه في فلسطين.
يعود الشاعر إلى بلاده التي ما انفكّ يبتكرها... تاركاً الاحتلال يثرثر فوق بقايا بلادنا: «الشمس تُحتضر/ على ثغرها اختلاجة بشرية».