زير النساء متخبّطاً في خضمّ الشهوة والموتسعد هادي
«بازي النسوان» بدأ كتابة ديوانه السادس بعيد احتلال العراق، فإذا به احتجاج جنسيّ على الحرب والعنف. القصيدة التي تلجأ هنا إلى الشكل التقليدي، من عمودي وتفعيلة، تقع في أسر موضوعها، مازجة التجربة الشخصية بالرؤيا الكونية
يعيد محمد مظلوم (1963) إلى الأذهان في كتابه الشعري الجديد «بازي النسوان» (دار التكوين ـ 2008) بعض ملامح تجربته السابقة في «أندلس لبغداد» (2002)... فالقصيدة هنا تمتد على مساحة الكتاب كاملاً، وتتداخل فيها الأشكال الشعرية، وتتعدد الأصوات لتصنع دراما تقرِّب القصيدة من الملحمة. إنّها ملحمة تعتمد المرأة والجسد ثيمة أساسية لها، كما هي محاولة للعودة إلى بدائية العلاقة بين الرجل والمرأة. ويصف هذا الشاعر العراقي العلاقة البدائية بأنّها علاقة الصيّاد بالفريسة، حين ترتبط المرأة بالمتع التي يكتشفها البدائي للتوّ، كالطوطم والوثن والثمار التي يتذوّقها للمرة الأولى. غزل «بازي النسوان» ليس تضرّعاً أو تشبّباً، بل نوع من التفاخر الذكوري الذي يستجيب لنمط مُغْفل وهامشيّ في الشعر العربي تَراجَعَ راهناً. وكان صاحب «ربيع الجنرالات ونيروز الحلاجين» (2003) و«الفتن البغدادية» (2006) يريد أن يثبت على غلاف كتابه الجديد عنواناً فرعياً هو: تضوّر زير نساء في حرب أهلية. لكن الناشر امتنع عن ذلك لكي لا يتشابه الكتاب مع كتب مظلوم غير الشعرية. لماذا العنوان الفرعي إذاً؟ يقول مظلوم: «ليس لإعلان براءتي من الركض وراء الغرائز في زمن قاس وملتبس. كما أنّه ليس احتفاءً مجرداً بالفحولة. القضية ليست شخصية. لننظر الى الأدب الإيروتيكي، كم هي نسبة حضور الفحولة إزاء الطغيان الأنثوي. الاحتفاء بالذكورة ليس بالضرورة تعويضاً ولا تباهياً، إنه احتفاء بالمنافسة بين الجنسين، كبديل لفكرة المساواة التي قد تمضي في تطرفها نحو التماثل».
ألا يعني ذلك أنّ الدوافع لكتابة القصيدة ليست شعرية تماماً؟ «بل على العكس. المسافة والفروق بين التذكير والتأنيث هي أصل الخرافات والأساطير والحروب، وهي بالتالي فضاء شعري يتيح التأرجح بين ضفتي هذه الثنائية. فكرة الجسد والمتعة والشهوة تتكشّف وتتضاعف في لحظات الخطر في كل الحضارات القديمة. ثمة تلازم بين فورة الجسد ورغباته، وهياج الحروب وأبواق النفير. حدث ذلك في ملحمة جلغامش، وفي أسطورة الخلق البابلية، وفي المدونات الإغريقية والرومانية. فكرة مركزية في كل تلك النصوص هي الموت أو مقاومة الموت. الحرب تحدث لدرء الموت، لكنها تورث موتاً كثيراً... والجسد ينهض للمتعة احتجاجاً على فنائه، لكنه يفنى ولا يصل إلى الخلود. شخصياً وبعدما كتبت «أندلس لبغداد» و«اسكندر البرابرة»، وأصدرت ثلاثة كتب عن الوضع العراقي، وجدت نفسي في أتون حياة مهددة بالاحتراق التام...».
ويضيف مظلوم: «كنت أذهب إلى «بازي النسوان» لأكتب مقطعاً أشبه بكلمة احتجاج على ما يحدث في بلادي، احتجاج مضمر على العنف والموت. حاولت أن أفرغ عنفي المضاد في مقطعيات متعددة. عمر هذا الكتاب بإيجاز هو المسافة الزمنية التي أعقبت الاحتلال حتى لحظة صدوره. كتابي يتصل بالحاضر تماماً لكنه يتواصل مع أقصى لحظة في الزمن، أحسب أنني شاركت كل العشّاق في الأساطير والتواريخ والحروب لذاتهم، وكتبت في الوقت ذاته عن لذتي الشخصية. ومن هنا يأتي التداخل بين الواقع اليومي والأسطوري التاريخي. وإذا كان الواقع اليومي مغرقاً بالفجاجة والدموية والتوحش، فقد كان هكذا دائماً. وكان الشعر نوعاً من الشهادة الأخرى، شهادة الحياة في زمن الموت، ومديح للطبيعة والإنسان في عصور الزوال».
ويرى مظلوم أنّ ما قدمه يستحق القراءة وسط الفوضى الشعرية الآن. فهناك تشابه مريب، وتواطؤ على كتابة ما يضجر ويجعل صورة الشعر غائمة، ولا يشفّ عن تجربة وعمق وفن. أما ما تعانيه تجربته فمختلف، في شعره صعوبةٌ في الأداء اللغوي والعلاقة بين المفردات، ما يجعل ترجمتها شبه مستحيلة. لذا لا يفكر في الترجمة: «لا تعنيني الترجمة على الإطلاق. أريد أن أرى تجربتي مجسدة ـ أو متجاسدة ـ من خلال اللغة التي أنتمي إليها بالتجربة الشخصية، والذاكرة الجمعية، وحتى برموزها البعيدة. ذلك أيضاً حرّضني على إعادة استخدام الشكل التقليدي ـ أي العمودي والتفعيلة ـ في «بازي النسوان»... فما دمت أجيد كل الأشكال المتاحة، لا مشكلة لدي في توظيفها داخل النص. ليست لدي عقدة بخصوص ذلك، لا أريد أن أرضي أحداً، أريد أن أرضي الجماعة في داخلي».
لكن لماذا البازي؟ ذلك الطير الذي وصف في كتب التراث بأنه أشرف الطيور الجوارح وأحرصها على طلب صيده؟ هل يتماهى محمد مظلوم معه... أم يستدعيه كقناع؟ يجيب الشاعر العراقي: «هو قناع شخصي، لكنه ينطوي في الوقت عينه على دلالات أخرى بالنسبة إلى فكرة الذكورة. إذا كان استخدام هذا القناع، وتوظيف رموز مثيرة أخرى، سيعيدان القارئ إلى الشعر الحديث... فأنا سعيد بذلك. لكن مع التأكيد على أنّي كتبتُ قصيدتي من دون التنازل عن الشروط الفنية التي أقتنع بها، ومن دون أن أكتب قصيدة فضائحية أو داعرة. إذ ليس باستطاعة الشعر استعادة قرائه من هذا الباب، في زمن أتيحت لهم فيه اللذة، أو الإثارة، عبر وسائل كثيرة أخرى. أما الشعر، في أعلى درجات تهتّكه، فَيُعنى باللذات غير المكشوفة، أو يصف ما يقع خلفها».
لا يعرف مظلوم ماذا سيفعل بعد «بازي النسوان»: «أنا مشغول الآن بكتاب نثري عن الشأن العراقي، أواصل الكتابة فيه بحذر تبعاً لمتغيرات الواقع السياسي وتجاذباته الخادعة. النثر يعبر عن موقفي إزاء ما يحدث الآن، اجتماعياً وسياسياً، لكنني في الشعر أهتم بما حدث وما سيحدث وما قد يحدث. أنا شغوف، في شعري، بأخبار الكوارث التي حلت بالأمم، والتنبؤ بمصير المدن ومآل البشر. أما في النثر، فأنا معنيّ بتقديم تحليل أو تفسير فيزيائي، يقارب اللحظة بشروطها. كل ما أستطيع قوله بالنثر سأكتبه نثراً. لكن الشعر هو فن ما لا يقال... إلا في صياغته الباحثة عن شكلها دائماً».


هدير يطفو على سطح القصيدة
حسين بن حمزة
في ديوانَيه السابقين «أندلس لبغداد» (2002) و«اسكندر البرابرة» (2004)، اشتغل محمد مظلوم على القصيدة الطويلة. وهذا ما يفعله في ديوانه الجديد «بازي النسوان». الواقع أن النفَس الشعري الطويل موجود حتى في دواوينه الأخرى. بهذا المعنى، يبدو مظلوم كأنه يعمل على «مشروع» شعري، أكثر مما يسعى إلى إنجاز قصيدة بالمطلق. هذه خصوصية تُحسب له بين مجايليه وأقرانه. أغلب الشعر العربي الذي كُتب، ولا يزال، في العقدين الأخيرين استساغ القصيدة القصيرة، والومضة الشعرية. معظم الشعراء الجدد يؤرّخون ما هو يومي وعابر ومهمل، ويميلون إلى كتابة مقتضبة ومكثفة، أو إلى نثر مفرط في نثريته.
مقارنة بما هو سائد ورائج، يبدو شعر محمد مظلوم كأنه أقدم من زمنه الفعلي. نقرأه فنعثر في طياته وغضونه على لغات ونبرات ومرجعيات شعرية وتاريخية. ما يكتبه مظلوم ينتمي إلى حداثة ما... لكنه، في الوقت عينه، لا يزال يُزامل الشعر العربي القديم، يغرف من بلاغته وجزالته وفصاحته. قصيدته ليست بنت لحظتها فقط، بل لها أسلاف وتقف فوق تراكم تاريخي مديد. الشعر الراهن يتفتّت أمام فظاظة العيش اليومي، بينما محمد مظلوم يحمي قصيدته عبر خلق هوية وانتماء قديمين لها. ثمة جلبة واضحة ومسموعة في العنوان الذي اختاره مظلوم لديوانه السابع: «بازي النسوان». وهذه الجلبة تتجاوز العنوان، لتتوزّع على كل أرجاء الديوان. الأرجح أنّ حدوث ذلك أمر طبيعي، إذ ليس سهلاً أن تُكتب قصيدة تحتل 140 صفحة بنبرة خافتة.
يُدير محمد مظلوم حواراً ضارياً بين البازي وفرائسه، أو بين الرجل / الشاعر ونسائه الحقيقيات والمتخيّلات. لكنه حوار من طرف واحد تقريباً. القصيدة تقع في أسر موضوعها الذي يسرد تاريخاً للفحولة على مرأى من الأنوثة، ويمزج التجربة الشخصية بالتجربة الكونية. الموضوع يُخضع القصيدة لإيقاع سريع ومتوثّب. الإيقاع، ومعه البلاغة والصوت العالي والإنشاد الجهوري، يمنع النص من الهبوط على أرض الواقع اليومي. تكثر أفعال الأمر: تقدّمي، تولّهي، تهيّجي، ضمّيني، شدّيني... إلخ. يقول الشاعر رأيه في السمراء من النساء، ثم البدينة، والنحيفة، والأرامل، والمطلقات، والعازبات، والكاتبات. يعود إلى شهرزاد وأوفيد وهوراس وفرجيل وهوميروس وجلغامش...، ويتحرى عن تسمية عضو المرأة في تراث الأنباري والتوحيدي وأبي نؤاس. وتكتظُّ القصيدة بأفعال النهش والفوران والعضّ والهياج والغزو والصهيل واللهاث والرغوة والعرق... أما القارئ، فليس عليه سوى أن يجهد للحاق بالسيولة اللغوية والدرامية والبلاغية التي تمرّ بها القصيدة على تفاصيلها وشؤونها.
الواقع أن الشاعر نفسه يقع أسير موضوعه ولغته التصاعدية، حيث تصبح «الكتابة غريزة تتنكر بالبلاغة» كما يقول. إن حواراً بين طائر جارح وفرائسه، لا بدّ أن يستدعي نبرةً مماثلة للضراوة والعنف اللذين يجري الصيد بهما عادةً. وهذا ما يفسِّر ارتفاع منسوب الذكورة بمعناه الهجومي والخشن في لغة القصيدة.
الحب بمعناه المعقّد والغامض والمتعدد والعصيّ على التعريف والتصنيف، هو أول ضحايا هذه اللغة المظفَّرة. ففي شعر كهذا، غالباً ما يطغى الموضوع الشعري على الشعر. الشاعر يكتب بإيعاز من فكرة مسبّقة، وهذا ما يجعل الشعر مدعوَّاً إلى التخلي عن جزء كبير من ممارساته المحض شعرية لمصلحة إنجاز الفكرة الشعرية.
الشعر الصافي، وإن ضئيل الحضور، موجود في الأعماق، لكن سماعه صعب وسط الهدير الذي يطفو على سطح القصيدة.