Penelope تغزل أحلامها على رصيف الخسارة خليل صويلحفي معرضه الجديد الذي يذكّر بالمعلم لؤي كيالي، يستعيد الرسّام السوري الشاب بهاء الواقعية التعبيرية. صفوان داحول يضيف هنا فصلاً جديداً إلى السيرة الذاتية التي يكتبها منذ عشرين عاماً... ويفتح ألبوم الصور القديمة، باحثاً عن بصمات الزمن
تتكرّر في أعمال صفوان داحول صورة امرأة واحدة في حالات مختلفة. امرأة تغفو فوق أريكة، أو تستند إلى كرسي من الخيزران، أو تقف إلى جوار جدار... كأنها بينلوب أخرى تغزل خيوط الحلم وتنتظر ما لا يأتي.
لوحة هذا التشكيلي السوري اللافت لم تغادر منطقتها الأثيرة منذ عقدين من الزمن: المرأة ازدادت حزناً وغموضاً وحيرة. وها هي أخيراً تفتقد مَن كانت تغفو على كتفه. إذ كثيراً ما كانت بصحبة رجل حزين ومنطوٍ على أحزانه. هل تحلم بما هو بعيد ومُنتظر؟ ربما، لكنّ انكسارها ينطوي على فقدان، ونظرتها تُنبئ بخواء داخلي وتوجّس.
ها هي مرة أخرى تجلس في ركن موحش وسط العتمة. هناك ضوء خفيض ينبثق من مكان قصيّ. هل هذا الضوء من قادها إلى كل هذه الانتظارات، وما الذي أنبأها به ورق اللعب في لعبة الحظ ووحشة الليل الطويل: خذلان آخر أم حلم مؤجل؟ أسئلة تطرحها لوحة صفوان داحول باستمرار ودأب... كأنها لا تغادر هذه الدائرة من الأحزان السرمدية.
في معرضه الجديد «حلم» الذي تستضيفه غاليري «أيام» في دمشق (حتى 10 نيسان/ أبريل المقبل)، تتوغل اللوحة في التفاصيل على نحو أشد تركيزاً وبحثاً. وإذا بالوجه وحده يغدو بؤرة للعمل والخطوط، ضمن تكوينات هندسية صارمة، تمنح عناصر الوجه مفرداتها التعبيرية، وسطوتها في الخط واللون والإشارة. كأن تلك المتواليات تتكشّف عن حالات المرأة عينها، وسيرة مضمرة تحكي تحوّلاتها المستمرة... أو لعلها الرتابة تتكرر كل يوم، فتغفو على أمل آخر يصعب تحقيقه.
هذا التقشف في المفردة التشكيلية يزداد زخماً وغرابة، حين يُضاف إليه تقشّف لوني صريح. إذ يكتفي داحول باللونين الأسود والترابي في مغامرة محفوفة بالمخاطر، فهذا الرهان على الخواء والعتمة ما هو إلا صرخة احتجاج معلنة على اندحار الأزمنة السعيدة وتلاشي كل الألوان الأخرى. زمن صقيعي بارد، وامرأة وحيدة تتدثّر بغطاء فوق أريكة في سيرة تتكرر كل يوم، ولا أحد يعلم أين اختفى ذلك الرجل الذي بالكاد يظهر على شكل قدّيس نائم بجوار المرأة. هناك حكاية سرّية ينبغي اكتشاف خيوطها، ذلك أنّ المرأة في لوحة أخرى تتكوّر على الكرسي في وضع جنيني، وأحياناً تجلس القرفصاء تائهة بين أوراق اللعب. وفي حلم آخر تتناسل إلى ثلاث نساء ثم إلى أربع. أربعة وجوه تشبه الأقنعة. متاهة عصيّة على التفسير واليقين.
ولعل المتابع لتجربة صفوان داحول (1961) لن يستغرب هذه الفضاءات الكتيمة والعوالم المغلقة: جدران سوداء وخطوط صفراء فقط تحيط باللوحة. منذ أن تبلورت تجربته، ظلّ داحول أسير الأماكن الضيقة والمفردات القليلة. إنه على أي حال، يرسم صورته الشخصية كما لو أنّه مسيح نائم في أيقونة إلى جوار امرأته في استعادة لبهاء الواقعية التعبيرية التي تذكّر بتجارب المعلم لؤي كيالي، وخصوصاً لجهة التقشف في العناصر وحركة أصابع اليدين. أصابع نزقة كآخر إشارة معبّرة على أحوال الكائن في عزلته ووحشته وأحلامه ربما. إن لوحات هذا التشكيلي المفرد، تستدعي عناصر الشعر للاستعانة بها على صعوبة القول المباشر، أو تفسير ما يحدث في سطح اللوحة وعمقها وثبات عناصرها وتكرار مفرداتها ورهافة خطوطها. سوف ترافقك المرأة نفسها على الجدران بسرد بصري مكثّف حتى تتلاشى إلى مجرد قناع. جسد بلا وجه يغوص في السواد أو في رقعة شطرنج. إنها لعبة الخسران مرة أخرى. الضجر في حركة المرأة رسالة لخواء الحب ربما، أو إشارة إلى مجهول عبر نظرة أو تأمل أو غفوة. حتى إنها تتحول في نهاية المطاف إلى تمثال أو منحوتة.
يقول داحول مفسراً تكرار الوجه عينه: «أحب العمل على الزمن الثابت لا المتغيّر، ولذلك لا يصبح هماً إن كثُرت الشخصيات أو قلت». ويضيف موضحاً «أميل إلى الصورة الفوتوغرافية، كمَن يفتح ألبوم صور قديمة. أنت ترى فيها الزمن لا الصورة. هذا ما أريد أن أعبّر عنه». ويستدرك بقوله «إنها سيرة ذاتية أكتبها منذ عشرين عاماً».
امرأة وكرسي إذاً، ألا يكفي هذان العنصران لسرد سيرة ذاتية تستحق أن تروى؟ المرأة تحلم وتنتظر، والكرسي ذاكرة مَن ذهبوا ورائحة مَن غابوا. إنّه الشاهد الصامت على ذلك الحداد الأبدي للمرأة في أحزانها وأرقها والوميض المباغت في نظرة عينيها، وصمتها الذي يكاد أن يتفجر بسؤال أو اتهام.
هل هذا كل ما لدى صفوان داحول؟ وهل يكفي الأسود والأصفر الترابي لنزق الريشة؟ يجيب: «صرت أكره كل الألوان. أريد لوناً واحداً ودرجاته. أميل عموماً إلى الألوان الأرضية. ينبغي أن يكون المرء أميناً لبيئته ومحيطة. فما هي الألوان المتوافرة في بلادنا حتى يعكسها الرسام في لوحته؟ حتى سوق البزورية أضحى من دون ألوان». لهذه الأسباب ربما يمضي داحول في تجربته هذه نحو تمجيد الفراغ والخواء وموت الألوان. رحلة صفوان داحول ونشأته الأولى أضفت حزناً أبدياً على ملامحه وسلوكه ونبرة رومنسية خفيضة في علاقته بالآخرين. فالطفل الذي نشأ على ضفاف العاصي لأب يعمل على شاحنة في الصحراء، وجد نفسه يرسم من دون معونة أحد، مفتوناً بالألوان والأشكال التي كان يبتدعها على الدوام. وهو بالكاد أفلت من رغبة والده في أن يصبح طبيباً بيطرياً، بسبب علاقة الأب ببدو الصحراء ومواشيهم.
في بروكسل حيث درس في معهد الفنون الجميلة، تعلّم كيف يكون المرء مخلصاً للمحيط الذي يعيش فيه، ويستمد مفرداته مما هو معيش ويومي وملموس. ويعترف بأنّه أفاد من تجارب جيروم بوش وبروغل وفيرمر، لجهة البساطة والتقشف وأهمية الفنون الشعبية، وكيفية أن ترى المسيح ماشياً بين الناس، قرب حمار، لا في أيقونة باذخة على جدار كنيسة.

-معرض «حلم» حتى 10 نيسان (أبريل) المقبل ـ غاليري «أيام» (دمشق) : 963116131088 +
www.ayyamgallery.com

مئة عام من الفنّ السوري
يتيح معرض «إحياء الذاكرة التشكيلية في سوريا» الذي يستضيفه «المتحف الوطني» في دمشق حتى أواخر آذار (مارس) الحالي ـ بمبادرة من الأمانة العامة لاحتفالية «دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008» ـ فرصةً فريدةً للتعرف عن كثب، عبر مقتنيات المتحف، إلى بدايات الفن التشكيلي السوري، وإلى أبرز رواد هذه الحركة التشكيليّة الغنيّة.
سيجد زوّار المعرض لوحات نادرة تغطي فترة زمنيّة واسعة: من نهايات القرن التاسع عشر إلى حقبة الستينيات. أعمال تكشف عن هواجس رواد من أمثال ناظم الجعفري وميشيل كرشة وسعيد تحسين وتوفيق طارق في تأصيل لوحة عربية. هؤلاء أرسوا اللبنة الأولى في عمارة التشكيل السوري المعاصر، في أعمال تحاكي الطبيعة والتاريخ والبيئة، من منظور واقعي تشوبه رومنسية خاطفة. تضيء أعمال الرواد ملامح لم تعد متمثّلة في أي تيار أو مدرسة راهنة في المحترف السوري... هذا المحترف الذي أدار ظهره للواقعية ليذهب نحو الانطباعية والتعبيرية والتجريد. وقد شهد التشكيل السوري نهضة أخرى في الستينيات، تتلمس الحداثة الأوروبية، وخصوصاً بعد عودة كوكبة من التشكيليين الشباب من الدراسة الأكاديمية في أوروبا... حيث خبروا مدارس وتيارات مختلفة، لتطوى صفحة وتبدأ صفحة أخرى، إذ لم تعد الهواية والموهبة وحدهما السبيل إلى اللوحة.
ومع تأسيس كلية الفنون الجميلة (1965)، انفتح الباب على مصراعيه أمام التجارب الجديدة. هكذا، ظهرت أسماء لامعة سرعان ما أكدت بصمتها الخاصة، نذكر مثلاً فاتح المدرس ولؤي كيالي ومحمود حماد وإلياس زيات ونصير شورى ونذير نبعة... هؤلاء وضعوا اللوحة على عتبة الحداثة من دون أن يتخلوا عن هويتهم المحلية. من هنا، فإن المعرض الحالي، في «المتحف الوطني» في دمشق، يعطي صورة أمينة لحقبة مزدهرة وضعت الفن السوري على تخوم العالمية. و«إحياء الذاكرة التشكيلية»، واحد من ثلاثة معارض ستشهدها دمشق خلال هذا العام لتوثيق الذاكرة التشكيلية السورية على امتداد مئة عام.

-«إحياء الذاكرة التشكيلية في سوريا» : حتى أواخر آذار (مارس) الحالي ـ «المتحف الوطني»، دمشق