محمد خيرماذا يفعل نيكولا ساركوزي بالإعلام الفرنسي؟ «نجم الإليزيه» الذي احتكر الأضواء، قرر أخيراً دمج وسائل الإعلام المحلية المملوكة للدولة... فهل ينجح في «تعزيز الثقافة الفرنسية في العالم»؟ أم أنّ هذه الخطوة ليست سوى جولة جديدة من استعراضاته الإعلامية الكثيرة؟
مثل كل «الظواهر» الشبيهة والموقتة، يبدو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مهموماً بالإعلام إلى درجة الهوس، ومشغولاً بالميديا من باب الغريزة، لا من باب فهم دورها الحقيقي، أو إدراك إمكاناتها التي قد تدعم ثقافة ما، لكنها لا تحلّ محلّها بالتأكيد.
التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي أخيراً، أفردت لها قناة «الجزيرة» مساحةً واسعةً. لا لأهميتها، بل لأنه ذكر خلال حديثه اسم «الجزيرة» صنواً لشبكة CNN. لهذا، لم تحتلّ التصريحات الأهمية نفسها على شاشة «العربية» التي «هزّت العالم». مثل أبطال الفيديو كليب، يتحرّك زعيم الفرنكوفونية بسرعة. يريد تحقيق هدفين متناقضين أشدّ التناقض: لغة إعلامية فرنسية مستقلّة، ولغة سياسية تستعير المفردات الأميركية، وتنتقي معظم المفردات من قاموس اليمين الجمهوري. وتأتي تصريحاته «اللامعة»، كدليل على أنه يريد من الإعلام الفرنسي أن يصبح مرادفاً لشخصية الرئيس نفسه: إبهار بلا عمق، وضجيج بلا طحن.
تصريحات يوم الخميس الماضي، لم تكن الأولى التي يذكر فيها ساركوزي «الجزيرة» وCNN. فعلها قبل شهرين، وتحديداً في 10 كانون الثاني (يناير)، داعياً مَن يريد أن يستمع إلى الأخبار باللغة الإنكليزية أن يشاهد «سي إن إن»، ومن يريدها بالعربية أن يشاهد «الجزيرة». أمّا فرنسا فهي «تتحدث الفرنسية»، ولا يمكن أن «يموّل الفرنسيون من ضرائبهم شبكة لا تتحدث الفرنسية».
هذه «الرؤية» حاول ساركوزي، بعد ساعات من الإدلاء بها، أن يجمّلها. لكن تصريحاته الأخيرة برهنت على طموح غير ممنهج لدى الرئيس الفرنسي. هكذا، أدلى بتصريحاته أمام أصدقائه الفرنكوفونيين في اليوم العالمي للفرنكوفونية في باريس. وأعرب عن رغبته في «تعزيز وسائل بث الثقافة واللغة الفرنسيتين في العالم». وانطلاقاً من ذلك، فهو لا يريد أن «يبقى كل شخص داخل مربّعه، واثقاً بأنّه يملك الحقيقة». هي كلمات جميلة توحي بالرغبة في ضمان التنويع المعرفي، بما لا يمكن معه فهم الخطوة «الشمولية» التي أقدم عليها قائل هذه الكلمات. ذلك أنه قرر قبل شهرين دمج وسائل الإعلام الفرنسية المملوكة للدولة، في هيئة واحدة «فرانس موند» أو فرنسا العالم. وهي خطوة لا يمكن استيعابها في ظل التصريحات السابقة، بل تزداد الدهشة عند إدراك حقيقة أنّ تلك التصريحات قيلت أصلاً للدفاع عن خطوة الدمج. والأهم من ذلك أن تلك المؤسسات ليست مملوكة بكاملها للدولة الفرنسية، وإنما يدخل في ملكيتها شركاء آخرون ليسوا حكوميين وليسوا فرنسيين أصلاً، هم الشركاء الفرنكوفونيين في شبكة «تي في 5» الشهيرة. وأولئك ينتمون إلى بلجيكا وكندا وسويسرا، فوجئوا جميعاً بأن الشبكة التي يسهمون في ملكيتها، قد دمجت في كيان واحد مع «راديو فرانس أنترناسيونال»، ومحطة «فرانس 24»، على أن يرأس آلان دو بوزيلاك (رئيس «فرانس 24»)، المجموعة الناتجة من الدمج. هكذا، تغيرت ملكية «إخوة» الفرنكوفون وعيّن عليها رئيسٌ، من دون مشاورتهم. أما الأخطر فهو أنّ إدارة مجموعة الإعلام الخارجي، تم توكيلها إلى كريستين أوكرانت. وهي، على رغم أنها إعلامية مرموقة ومشهورة بالكفاءة، تبقى زوجة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير. ما أثار تساؤلات مشروعة عن مستقبل صدقية المجموعة الإعلامية، صدقية قد تحكمها هذه العلاقة بين مديرتها و«السلطة التنفيذية»!
غضب فرنكوفوني
الملاحظات السابقة كانت سبباً لغضب فرنكوفوني مشروع، ومخاوف أعلن عنها صراحة خبراء إعلاميون ومسؤولون في البلدان المعنية، يخشون أن يتم ابتلاع «تي في 5» في جوف «فرانس 24»، وأن تمنح المنظومة الإعلامية الفرنكوفونية الأفضلية إلى «صوت فرنسا»، أو أن تتحول شبكة «تي في 5» برمّتها إلى «أداة أساسية في خدمة إشعاع فرنسا الدولي»... كما توقعت قبل أشهر فضيلة لعنان، وزيرة الثقافة البلجيكية ذات الأصل المغربي.
لكن قرارات الدمج الفرنسي، مستمرة في خططها، على رغم الاحتجاجات الفرنكوفونية الحادة والاعتراضات الفرنسية الخجولة. إذ إن هناك بين صفوف خبراء الإعلام الفرنسيين، من يدعم خطط ساركوزي. منهم دومينيك فولتون الذي نقلت وكالة الأنباء الفرنسية تصريحاته عن احتجاجات الشركاء الفرنكوفونيين، قائلاً إن «الشركاء على حق في الاحتجاج، لكن عليهم أن يبدوا اهتماماً أكبر، وأن يكون تدخلهم والتزامهم أكبر».
لا تحتاج العبارة السابقة إلى شرح مفصل، إذ يمكن ترجمتها إلى تعبير مصري دارج يقول «على قدّ فلوسهم». فمن المعروف أن فرنسا تتحمل ثلثي تمويل شبكة «تي في 5» والذي يبلغ بالإجمال 90 مليون يورو.
كل هذه «المعارك» تتنافى واحتمال أن يكون ساركوزي صادقاً في نياته حول التعددية الإعلامية والاستقرار في المربّع... المسألة ببساطة هي مشاعر شوفينية تبحث عن خصوصية الصوت لا خصوصية المضمون. وفي سبيل ذلك، لا يتورّع ساركوزي عن اتخاذ خطوات تخصم من شعبيته كل يوم. وبدلاً من التوسع في مشاريع إعلامية تخاطب الآخر، يريد الرئيس من الآخرين تعلُّم الفرنسية. وإلى أن يتعلموها، فإنه يتسلّى بطرد شركائه الذين يجيدون لغته فعلاً. لا أحد خارج قصر الإليزيه يعلم كيف يفكر ساركوزي. المؤكد أنه إذا كان يرغب في ثورة فرنسية جديدة على صعيد الإعلام، فإنه يبدو فيها أبعد عن جان بول مارا، وأقرب إلى لويس السادس عشر.
سياسة ديناميكية؟
بعد إعلان نيّته توحيد وسائل الإعلام الحكومية في كيان واحد، أصدر قصر الإليزيه بياناً أوضح فيه أن «لدى فرنسا سياسة دولية قديمة في مجال المرئي والمسموع. وهي سياسة ديناميكية، لكنها مشتتة بين جهات عدة، تعمل كل واحدة بمفردها، ومن دون التنسيق في ما بينها». وأشار البيان الذي نقلته وكالات الأنباء إلى أن «الأوان قد آن لجمع هذه القنوات في باقة واحدة من القنوات والخدمات». والكيان الجديد «فرنسا موند» يضم «راديو فرنسا»، و«فرنسا 24» التي أسست قبل 15 شهراً، إضافة إلى شبكة «تي في 5» الشهيرة. وتبث الشبكة في 202 دولة حول العالم، ويتابعها أكثر من 25 مليون مشاهد. وهي الشبكة الوحيدة التي تسهم في إمدادها بالبرامج، شبكات أوروبية فرنكوفونية عدة، تشارك أيضاً ـ أو يفترض أن تشارك ـ في عملية اتخاذ القرار. ويفترض أن يتم قريباً تحديد خطة المؤسسة الناتجة من الدمج، وهي خطة للعمل المستقبلي من عام 2009 إلى 2013.
ومن المفارقات أن قرار فرنسا إعادة تنظيم بثها الفضائي، قد تزامن مع توقيع ما عرف إعلامياً باسم «وثيقة الفضائيات» العربية. إذ إنّ كلا الحدثين سبّبا مخاوف تتعلق بالصدقية والهيمنة، مع الفارق الكبير بالطبع. ولم يعترض على الوثيقة العربية سوى قطر مالكة قناة «الجزيرة»، وربما لهذا كانت المحطة القطرية هي الوحيدة ـ بين شقيقاتها ـ التي تستحق المقارنة بالـ«سي إن إن».


نصيحة أميركية: «ساركوزي... انضبِط!»
صباح أيوب
هي صفعة قوية تلك التي تلقّاها نيكولا ساركوزي، السبت الفائت، من إحدى أهم الصحف العالمية، من قلب «الدولة الصديقة». إذ خصّصت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية افتتاحيتها (في 22 آذار / مارس الحالي) للرئيس الفرنسي، طالبة منه «الانضباط»، وواصفة إيّاه بـ«الاستعراضي» في مقال بعنوان: Le president Bling-Bling. وقد استعارت الصحيفة الأميركية ذلك الوصف من صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية التي كانت قد استخدمت العنوان نفسه ـ «الرئيس الاستعراضي» ـ على صفحتها الأولى (بتاريخ 17 كانون الأول / ديسمبر 2007). أمّا الأميركيون، فعتبهم على الرئيس الحليف تركّز على أسلوب «البهورة الإعلامية» الذي اعتمده منذ اليوم الأول لتولّيه الحكم. ورأت الافتتاحية أنّ «نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة ليست سوى معاقبة لساركوزي على هذا الأداء». وانتقدت «نيويورك تايمز» «انعدام الحكمة وسوء التصرّف» لدى شخصية «كدّت للوصول إلى سدّة الرئاسة. وعندما أصبحت في المكان المرتجى، فقدت السيطرة على نفسها». وعدّدت الصحيفة بعض الأمثلة البارزة التي «وصمت» بداية عهد ساركوزي، كالضجّة الإعلامية «المباحة» التي رافقت طلاقه، وزواجه وشهر عسله، حيث احتلّت صوره غلافات 252 مجلّة في 2007، إضافة الى بعض «التصرّفات غير المدروسة» في تعامله مع الإعلاميين، وفي تصريحاته الشخصية وبعض تصرّفاته العلنية...
باختصار، الرئيس الفرنسي يتصرّف بطريقة لا تليق بمركزه الرئاسي. وقد عبّرت «نيويورك تايمز» لأوّل مرّة بهذه الصراحة عن عدم رضاها عن سلوكه، لأنه «يبعد كلّ البعد عن هدوء وجدّية الرؤساء الذين سبقوه»، فنصحته بـ«جرعة من الانضباط» قد تكون مفيدة في وضعه.
من جهته، ردّ الرئيس ساركوزي، أمس، من على منبر إذاعة «بي بي سي» البريطانية (أثناء زيارته إلى لندن)، على تلك الانتقادات، مؤكداً أنّه «سيأخذها في الاعتبار كما يفعل دائماً»، مبدياً استغراباً مبطّناً من توجيه النقد لمظهره وأسلوبه الخارجي فقط، «ما يعني أن أسلوبي العملي السياسي لا غبار عليه»!