لن يواجه حمزة عبّود عداوات زملائه واحتجاجاتهم. فرصده الشامل لـ«الشعر اللبناني المعاصر»، جعل المشروع الذي موّلته «اليونسكو» وأصدرته «الفارابي»، يتسع لمختلف الاتجاهات: من العمود والتفعيلة... إلى قصيدة النثرحسين بن حمزة
الطريقة التي اتّبعها حمزة عبود، أو التي أُريد منه أن يتّبعها، في تجميع «ديوان الشعر اللبناني المعاصر» وانتقاء مواده، أعفته من فكرة أن يكون المجلّد الضخم الذي صدر، في 855 صفحة، عن «دار الفارابي» بالاشتراك مع منظّمة «اليونسكو»، أنطولوجيا شخصية محصورة به وبذائقته الشخصيّة. كأنّه لا يريد أن يتحمّل وحده مسؤولية تسمية الشعراء الذين يمكنهم أن ينضمّوا إلى هذه الأنطولوجيا، أو الذين يُستثنَون من «نعيمها». ولو راعى التقاليد الحصريّة للأنطولوجيا، لاضطر أيضاً، ربّما، إلى إحداث تغييرات في طريقة اختيار القصائد نفسها.
الأنطولوجيات، عادةً، تثير سجالات وعداوات أكثر. معدّو الأنطولوجيات يفكرون، أول ما يفكرون، بعدد العداوات التي سيكسبونها مع كل شاعر يستبعدونه، إضافة إلى عداوات جزئية تتمثل بعدد الصفحات التي يخصصونها لكل شاعر، وعدد القصائد المختارة لكل منهم... في الحقيقة الشعراء لديهم حساسيات كثيرة (منطقية وغير منطقية)، ويصعب إرضاؤهم، بأنطولوجيات أو من دونها.
لا بدّ من سوق هذه الملاحظة منذ البداية. لأن الكتاب يكاد أن يكون ثبتاً شعرياً عاماً، أو فهرساً شبه كامل بأسماء الشعراء اللبنانيين المعاصرين. إنه أقل من ثبتٍ كامل بقليل، وأكثر من أنطولوجيا بكثير. لا نقول هذا لكي نقلل من أهمية إنجاز مشروع مهم وضروري وناجح كهذا، وإتاحته بهذه الصيغة للقراء والنقاد. القصد هو أن نقدم توصيفاً «موضوعياً» لعمل حمزة عبود الذي حاول، بدوره، أن يقدم تصوراً «موضوعياً» لمشهد الشعر اللبناني المعاصر.
لعلّ المشروع أتاح لهذا الشاعر والناقد المعروف أن يتوصّل إلى حلٍّ معقول وغير معلن، وهو أن يضمّن أنطولوجياه الشخصية، أو جزءاً كبيراً منها على الأقل، داخل المختارات الشاملة التي أعدّها في الكتاب. لعلّه حاول أن يجمع بين التذوّق الشخصي المتطلِّب (وهو، بالمناسبة، واحد من عُتاة متذوقي الشعر ومتابعي تطوراته وتجاربه)، وبين أن يكون موضوعياً ومنسجماً مع فكرة المشروع. والمشروع يُفترض به أن يقدم مشهداً شعرياً أكثر شمولية، عبر إفساح المجال لأكبر عدد ممكن من المشاركين في صناعة ذلك المشهد، سواء كانت المشاركة أساسية وحاسمة... أو كانت ثانوية وغير مؤثرة.
الهدف المعلن من الكتاب، والخطّة التي اعتُمدت في إنجازه، تدفع القارئ إلى تجاهل هذه الفكرة (موقتاً على الأقل)، والانكباب على قراءة الكتاب بوصفه «ديواناً» يتضمّن مختارات أوسع مما تتضمنه الأنطولوجيات عادةً. هذا هو طموح الديوان فعلاً. إنّه يقدم تصوراً أعم وأشمل، ولهذا تم تبنّي تسمية «الشعر اللبناني المعاصر» في صيغتها العمومية. المقاربة جعلت حمزة عبّود يتوصل إلى تسوية بين الأهداف المعلنة للكتاب، وبين ذائقته الخاصة الأكثر تشدداً في معاملة أي قصيدة وتقويمها نقدياً. إضافة إلى ذلك، أتاحت تلك المقاربة، حضور شعراء القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، وتجاورهم مع شعراء قصيدة النثر. ثمة أنطولوجيات عدة صدرت في الآونة الأخيرة، خصصت لقصيدة النثر فقط. وحين أراد بعضهم أن يفسح المجال لما هو «معاصر» أو «حديث»، تم الاكتفاء بعدد محدود ومحسوب بدقة من شعراء التفعيلة.
بحسب تلك الإشارات ـــــ وكما جاء في المقدمة نفسها ـــــ ضمّت المختارات ستة وستين شاعراً يمثلون مختلف الاتجاهات والتحولات التي عرفتها الحركة الشعرية في لبنان منذ منتصف القرن الماضي، وحاولت أن تقدم صورة للمشهد الشعري تتيح للقارئ أن يتبين الملامح الأساسية لهذه الحركة.
بهذا المعنى، يقترح «الديوان» أكثر من طريقة وأكثر من زاوية نظر لتفقّد حال الشعر اللبناني المعاصر على امتداد أكثر من نصف قرن ومعاينة التقلبات والتبدلات التي اعترته، بعضها بسبب ابتكارات وارتيادات بعض الشعراء المؤسسين لحداثة هذا الشعر وخصوصيته، وبعضها بسبب التراكم التدريجي الثري والمتعدد الذي صنعته التجارب المتتالية زمنياً ونصياً. إذ يستطيع القارئ أن يطلع على سردٍ تاريخي وكرونولوجي لطموحات هذا الشعر، وهي تتحقق عبر القصائد ذاتها لا فقط عبر الكلام النقدي عليها. إنها فرصة لقراءة مقارنة أيضاً. المختارات والأنطولوجيات تتيح هذا النوع من القراءة التي تمزج تجارب ونبرات ونكهات وطموحات متنوعة ومتضاربة في آن واحد. وفي هذا السياق، يمكن الحديث بثقة عن نموذج شعري لبناني شديد الخصوصية. نموذج استفاد من التجربة اللبنانية ككل. إذ لا يخفى على القارئ أن هذا الشعر كُتب ونضج واغتنى داخل زمن لبناني شهد إبداعات على أكثر من صعيد، من الأغنية إلى اللوحة إلى الترجمة... إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والانفتاح الواسع على العالم. جزء كبير من الشعر الموجود في الكتاب تجاور مع أخصب فترات الحياة اللبنانية. لنتذكر أن مجلات مثل «الآداب» و«شعر» و«حوار» و«مواقف» تزامنت مع ترسّخ التجربة الرحبانية ونهضة الفن التشكيلي، ولاحقاً مع الولادة الثانية للرواية اللبنانية الحديثة. ثم رافقت ترسّخ جيل السبعينيات كتجربة لها وزنها الخاص داخل تلك الحركة الشعريّة. ثم واكبت الحرب الأهلية التي طعّمت تجارب الجيل الأكثر شباباً بخيارات نصية مختلفة. ثم تفتت مفهوم القصيدة لدى عدد من الشعراء، والشبان منهم خصوصاً، فلم تعد مشروعاً أو رؤيا فكرية صلبة للعالم، بل صارت سجلاً للحوادث الشخصية والعابرة والمهملة. الكتاب يوفِّر لكل شاعر أن يحضر في سياق لحظته الشعرية الخاصة، وفي سياق الزمن الشعري العام.
لم يغفل حمزة عبود عن القراءات اللامحدودة التي يمكن لصيغة الديوان أن تقترحها على القارئ. ثمة إشارات عدّة إلى هذا في المقدمة المكثفة والقصيرة التي وضعها للكتاب. والأرجح أن القارئ كان يطمع في مقدمة أطول، وأكثر توغلاً في التجارب والتيارات والأصوات الشعرية الكثيرة التي تمثّلت في «ديوان الشعر اللبناني المعاصر».