ياسين عدنانرغم أنّ الـ«فانتاستيك» نشأ داخل فضاء الرواية، فـ «مجموعة البحث في القصّة القصيرة» في المغرب آثرت رصده داخل الجنس القصصي الذي احتضن أهم تمثّلاته للشرط البشري، مع كبار مؤسّسيه أمثال هوفمان، وإدغار ألان بو، وموباسان، وهنري جيمس وكافكا. وعلى رغم أنّ بداية الفانتاستيك أو «الغرائبي» كانت في أوروبا، والدول الأنغلوساكسونية، فقد اختارت «مجموعة البحث» تخصيص ملف العدد السادس من مجلتها «قاف صاد» وكتاب «الباقة الزرقاء» (الصادر ضمن سلسلتها «ترجمات») لأميركا اللاتينية حيث تجذّر التخييل والكتابة الفانتاستيكيين، بعدما دُمجت اعتقادات الشعوب الأصليّة مع تراث المستعمرين الأوروبيين فكوَّنا البوتقة الأولى للخيال الأميركو لاتيني. أما القصة الفانتاستيكية، فبدأت تكوّن رموزها الأولى مع نهاية القرن التاسع عشر. حينها، نشأ هذا النوع الأدبي ضمن التفاعل الطبيعي بين العلم والفلسفة من جهة، والفنون والآداب من جهة أخرى. هكذا، التقط الكُتَّاب الانشغالات الفكرية، ليجعلوا منها مواضيع فانتاستيكية تحاول تقديم أجوبة عن حيرة الإنسان ومحدودية المنطق لتفسير الظواهر.
لكن صدور انطولوجيا الأدب الفانتاستيكي عام 1940 على يد كل من بورخيس وسيلفيا أوكامبو وأدولفو بيوي كاساريس، مثّل قطيعة مع هذا الشكل من الكتابة الفانتاستيكية، الموسومة أسلوبياً بالواقعية، وموضوعاتياً بالجهوية، مدشّناً لأدب فانتاستيكي جديد متجذر في الخيال، ويشتغل بآليات جديدة ومواضيع مختلفة: بناء لُعبي للحبكة، تجاوز لقوانين السببية الزمانية والمكانية، تداخل الموضوعي بالذاتي، الاشتغال على الأسطورة. هذا الأدب الفانتاستيكي هو ما حاولت «قاف صاد» الانتصار له في ملفها الذي ضمّ ترجمات وحوارات قيمة، أهمها دراسة خوليو كورتاثار عن «الإحساس الفانتاستيكي» وحوار مع بورخيس سنة 1964 عن «الأدب الفانتاستيكي». بينما حاول «الباقة الزرقاء» أن يعطي القارئ صورة أوسع عن الذكاء القصصي الأميركولاتيني، عبر ترجمة رشيقة أنجزها المغربيان سعيد بنعبد الواحد وحسن بوتكى لمختارات قصصية فانتاستيكية.
وخلافاً لما يعتقده عديدون بأنّ الفانتاستيك هو نقيض الواقع، يؤكد ملفّ «مجموعة البحث» أنّ الفانتاستيك نوع أدبي «واقعي»، لأن الواقع يمثّل موضوعه الرئيس. أما ازدواج الشخصية، وتداخل الحلم واليقظة، وانعدام الحدود بين الواقع والخيال، فليست سوى تعبير موضوعاتي عن إرادة كتابة متمردة. فإذا كانت الواقعية تظهر لنا «الواقع» كما ندركه، فالفانتاستيك يتجاوز العقل الذي ينظم إدراكنا للعالم، ويفتح آفاقاً رحبة أمام واقع يعترف بقسوته. فيما شطحات الفانتاستيك تمثّل شروخاً في نظرتنا للواقع اليومي. لكن هذا لا يعني أن الفانتاستيكي قد يصير مقابلاً للواقعي. هذا الطرح ليس صحيحاً، وفق ما جاء في افتتاحيّة «قاف صاد».