بيسان طي«حلم رجل مضحك» ـ كتب باختين ـ هي موسوعة أعمال دوستويفسكي، رغم أنه التجأ هنا إلى عالم الفانتازيا عن طريق الحلم، مبتعداً عن الرومانتيكية التي طبعت أعماله الأخرى، وذلك ليس غريباً، لأن هذه الرواية مما كتبه الأديب الروسي في سنوات حياته الأخيرة. في الحلم خطوات نحو الوعي بحقائق الحياة، وبأنّنا «على أرضنا لا نستطيع أن نُحب إلاّ من خلال الألم» كما يرى بطل الرواية، ناقلاً قناعات كاتبها. هكذا يصير الإنسان مشاركاً في البحث عن مصير الإنسانية كلها، ليعلن أحياناً أنه مصدر الخطيئة الأولى.
هذا البطل (يؤدّي الشخصية حسام الصبّاح) يعلن منذ اللحظة الأولى: «أدرك أنني رجل مضحك». تتنازعه رغبة شديدة في الانتحار، ويجري ثلاث محاولات لينجح بأن يموت أخيراً، ويكتشف الأرض الأخرى حيث لا خطايا ولا حقد... لكنه ينجح في أن يعيث فيها خراباً وخبثاً وكرهاً. وفي عتمة الحلم، يطرح اللاوعي الأسئلة الأكثر وضوحاً، وتتجلى من خلال البحث في الموت قناعات «وجودية». الرجل المضحك يحكي للجمهور قصة حلمه، ومعه على الخشبة أمه الشابة (ساندرا ملحم)، وأخوه (كميل يوسف) الأشبه بأبله دوستويفسكي... فيما الأرض مفروشة بأوراق اللعب، تذكّر برواية أخرى شهيرة للكاتب الروسي هي «المقامر». أما الشخصان الآخران، فلا يتكلمان إلاّ نادراً، كأنهما جسدان مفككان مهزومان يزرعان الخشبة بحركات محطمة، الصبّاح يحكي الموت في حلمه وهما يجسدان الموت ككابوس ينهك المُشاهد.
تضيع الحدود في الرواية بين الحقيقة والجنون، وبين الحلم والوعي، ويرتكز بناء القصة ـ في ما يرتكز ـ على التأرجح بين السخرية والألم. لكن درجاني انحاز إلى الجانب الأكثر سواداً في الرواية، فيما لم تستفد قراءته تلك من الإمكانات الهائلة التي تقترحها عوالم دوستويفسكي. وكأننا بالمخرج لم يذهب إلى أقصى إمكاناته في إدارة الممثلين، ما جعل حضور حسام الصبّاح طاغياً على الخشبة. وحدها الموسيقى (هتاف خوري) بين عناصر العرض الأخرى، جاءت تحمل الزخم الكافي، وتجسّد الرواية تجسيداً كاملاً.
لا شك في أن درجاني وضع نفسه أمام تحد كبير عندما قرر تقديم رواية لدوستويفسكي... ولا شك في أنه منح جمهوره فرصة جديدة للالتقاء بشخصية تعيش في لاوعينا الثقافي، وتحمل ألماً إنسانياً كبيراً. وقد حرص المخرج اللبناني على أن يكون «وفياً» للنص، إلاّ أنه أخرج الحوار من صيغة المونولوغ الداخلي الغني بدلالاته، نحو أسلوب يبدو فيه الممثل كأنه يتحدث إلى الجمهور، وذهب بجزء من الحوار نحو صيغة أشبه بحقائق تُلقى خلال المحاضرات، خاصة عندما يعلن «لا أُريد أن أعيش إلا على هذه الأرض».
في النهاية لم يدع طلال درجاني جمهور عرضه الافتتاحي يغادر القاعة محملاً بحزن الرجل المضحك. هنأ المسرحيين في اليوم العالمي للمسرح، وأعلن تكريم المخرج اللبناني يعقوب الشدراوي. صعد المعلّم بجسده النحيل إلى الخشبة، عانق فريق العرض، حبس دمعة، ولم ينبس بكلمة... الصمت ـ في المسرح خصوصاً ـ أبلغ تعبيراً من كل الكلام الزائد!

«حلم رجل مضحك» : حتى 3 أيار (مايو) المقبل ـ المركز الثقافي الروسي، فردان : للاستعلام: 01،790907