القاهرة ـ محمد شعير الأغنية السياسية تعود إلى أحضان السياسة
مهرجان «أصوات الشرق الجديدة» الذي تنظّمه Incognito حتى 9 نيسان (أبريل) المقبل، يواصل رهانه على الحركة الموسيقيّة البديلة في العالم العربي. غداً موعد الجمهور اللبناني مع فرقة مصريّة شابة تعيد الاعتبار إلى الأغنية الاحتجاجيّة، مستعيدة سيّد درويش، والشيخ إمام، وربّما... زياد الرحباني
المحطّة المقبلة لمهرجان «أصوات الشرق الجديدة» الذي يسلّط الضوء على فرق شابة من مختلف الأقطار والمشارب الفنيّة، ستكون موعداً من نوع خاص. هذه المرة، يستحضر المهرجان من مصر قامتين من قامات الموسيقى العربيّة هما الراحلان سيّد درويش والشيخ إمام عيسى. الأوّل رمز بارز من رموز النهضة الموسيقية، والثاني أحد أهم أصوات الأغنية الاحتجاجية العربيّة خلال القرن العشرين... في الحقيقة هي فرقة «إسكندريللا» حملتهما معها وجاءت لتقدّم يوم غد، أمسية بيروتيّة، تستعيد فيها أغنيات طالعة من حياة الناس البسطاء، لفنانين اضطهدا طويلاً من المؤسسة الرسمية، كل في زمنه... والمفاجأة أن الفرقة المصريّة الشابة قد تعرّج أيضاً على بعض أعمال زياد الرحباني!
فرقة «إسكندريللا» التي تأسست عام 2001. يومها أدرك حازم شاهين الشاب القادم للدراسة في معهد الموسيقى العربية أنّ مستقبله لن يكون في مدينة الإسكندرية التي يعشقها. هو هنا في المدينة الأمّ، القاهرة التي احتضنت موهبة سيد درويش الإسكندري الأصل أيضاً. لكن ماذا سيفعل فيها؟ بعد حوارات مطوّلة، اكتشف أيضاً أنّ لصديقه الملحن وعازف العود شادي مؤنس الأفكار نفسها: الحلم بموسيقى وأغنية تبحران عكس تيار السائد، وتنقضان مقولة خاطئة طالما استعملت لمصادرة الإبداع وتشويه الذوق، أي «الجمهور عايز كده».
هكذا كانت «إسكندريللا». فرقة موسيقية تقدّم تراث سيّد درويش والشيخ إمام اللذين أسهما، كل من موقعه، في تكوين الوعي السياسي في مصر. سيّد درويش وضع أسس التجديد الموسيقي مطلع القرن الماضي، وأرسى تقاليد موسيقيّة طالعة من تجربة الشعب وحياة الكادحين في مصر. والشيخ إمام ألّف ثنائياً مع «الفاجومي» أحمد فؤاد نجم، وعبّرت أغنياتهما في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، عن الوعي العربي المعارض بين محطتين مفصليّتين: النكسة والانفتاح... وما زالت أغاني الشيخ الضرير إلى اليوم تتصدّر التظاهرات في مصر. اللقاء الأول مع الجمهور كان مفاجئاً للثنائي حازم شاهين وشادي مؤنس. جمهور كبير صفق طويلاً للفرقة وردد مع حازم كلمات أغنية الشيخ إمام الشهيرة «يا مصر قومي وشدي الحيل» (تأليف: نجيب شهاب الدين). شيئاً فشيئاً تشجّع الثنائي على الخروج قليلاً من عباءة درويش وإمام، والالتفات إلى مشروعه الخاص. بعد ذلك توسّع ريبرتوار «إسكندريللا» ليشمل بعض أغنيات زياد الرحباني، وأعمال الفرقة الخاصة، وكانت معظم الكلمات لعائلة حدّاد (فؤاد وأمين وأحمد).
لكن هل مزاج الشارع يحتمل العودة إلى الأغنية الملتزمة في ظل وضع سياسي راكد، وسقف منخفض؟ وهل المشكلات التي كان يطرحها سيد درويش والشيخ إمام في أغانيهما صالحة للتعبير عن اللحظة الراهنة؟ يجيب حازم شاهين: «للأسف نعم. كأننا في فيلم واحد، لكنّ عنوانه يختلف وأبطاله أيضاً». لكن لماذا تحرص «إسكندريللا» على إعادة تقديم أغنيات درويش وإمام فقط؟ يجيب: «إمام كان صديقاً لوالدي وبداية تعرّفي بالأغنية السياسية الملتزمة. لكن اختيارنا له جاء لأنّه أسهم في تجديد الموسيقى العربية، ولأنّه المغني المصري الوحيد على مدى الخمسين سنة المنصرمة الذي كان لأغانيه منحى سياسي مباشر. أما سيد درويش فهو أبو الموسيقى العربية. وكانت فكرتنا أن نقدمهما كما هما من دون ادعاءات بالتجديد والابتكار». الفرقة لا تقدّم إذاً رؤية جديدة لأغنيات الشيخين، ولا يهمّها «إحياء التراث»؟ يجيب: «ليس هدفنا إحياء التراث، أعمال درويش وإمام ليست تراثاً ميتاً ينبغي إحياؤه. نحن نقدم الأغنيات كما هي، لا نغير مثلاً في المقام الموسيقى أو غير ذلك. الأغنيات لا تحتاج إلى ذلك أساساً، فهي تحمل توقيع مجددين في الغناء المصري. ولا تنسَ أن تقديمها كما هي، أصعب بكثير من محاولة الادعاء بتجديدها».
بدأت «إسكندريللا» بعدد محدود من العازفين. وكانت بدايتها الأولى في الإسكندرية، لكنّ لا أحد كان يعرف أعضاءها، ولم يكن لها لون مميز تقدّمه. عندما جاء حازم إلى القاهرة، احتفظ باسم الفرقة، لكن انطلق بأعضاء مختلفين وبمشروع جديد. «شاهدت أوبريت للشاعر خميس عز العرب، اسمه إسكندريلا وأعجبني الاسم الذي كان مزيجاً من الإسكندرية وسندريلا، وطلبت من صديق مشترك بيننا أن يستأذنه لنطلق الاسم على الفرقة».
باتت الفرقة تضمّ منذ عام 2005، كلاً من شادي مؤنس (غناء وعود)، وهاني بدير (إيقاعات)، ونوّار عباس (بيانو)، وأشرف نجاتي (عود). وبعد ستة أشهر، انضمت إلى الفرقة سامية جاهين (ابنة الشاعر المصري الراحل صلاح جاهين)، وآية حميدة (ابنة الفنان محمود حميدة) التي ستغنّي في حفلة الفرقة غداً في بيروت، فيما اعتذرت سامية عن عدم الحضور بسبب ظروف شخصية. وسينضم إلى الفرقة في أمسية الغد عازف الكونترباص مايلز جاي الأميركي الأصل الذي شارك في تلحين إحدى مقطوعات الألبوم الوحيد للفرقة بعنوان «العيش والملح» وهو ألبوم موسيقي فقط أنتجته شركة Incognito في بيروت.
لكن كيف يقوّم النقّاد الموسيقيون تجربة «إسكندريلا»؟ يقول الناقد والموسيقي فتحي الخميسي، الأستاذ في أكاديمية الفنون والمعهد العالي للموسيقى العربية: «جوانبها الإيجابية كثيرة... مجرد الحديث عن الموسيقى العربية يعني أنّك تتحدث عن مريض، وأي مغنٍّ يريد أن يعبِّر عن نفسه، لا بد من أن يدرك تلك الحقيقة». ويضيف: «اقتراب «إسكندريللا» من سيد درويش هو إدراك أنّ هناك مأزقاً يستوجب البحث عن حلول له في العودة إلى الأصول. وأي اقتراب من أصول للموسيقى العربية، لا بد من أن يمرّ أيضاً في سيد درويش. لكن يبقى سؤال: هل تكفي العودة إلى المنابع الصافية؟ أم أنّ المطلوب أن نخطو إلى الأمام على طريق إحداث إنماء موسيقي جديد ومتولد من سيد درويش وتجربته؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن تجيب عنه الفرقة».
هل تؤدي «إسكندريللا» أغنيات زياد الرحباني في حفلة غد؟ يضحك حازم شاهين: «سنغني أغنيات سيد درويش والشيخ إمام وأغنياتنا. ثم سنرى تجاوب الجمهور معنا. إن شعرنا بالأمان، فقد نغنّي في ختام الحفلة إحدى أغنيات زياد. نحن متردّدون تجاه ذلك، لأنّ الجمهور يعرفه جيداً».

حفلة «إسكندريللا»، ضمن مهرجان «أصوات الشرق الجديدة» : 8:00 مساءً ـ “مسرح مونو”: 01،202422


الإفلات من قبضة الدولة
منذ أقلّ من عشر سنوات، كانت الثقافة في مصر مقتصرة على القطاع العام. كان من الصعب الخروج من الهامش الذي تحدّده المؤسسة الرسميّة إلى ساحة تحت سيطرة وزارة الثقافة. وتدريجاً دخلت المؤسسات التقليدية في غيوبة طويلة، لتحل مكانها مؤسسات أهلية ثقافية. أنشئت «ديوان» وهي مكتبة على الطريقة الإنكليزية في توزيع الكتب وعرضها، ثم دور نشر خاصة لتتبنّى محاولات الشباب الجديدة في الكتابة الشعرية والروائية مثل «دار ميريت». وأصبحت المكتبة ودار النشر بديلاً من هيئة الكتاب الرسمية.
«ساقية الصاوي» صارت أحد أهم مركز للفنون في فترة وجيزة، وأصبحت بديلاً لدار الأوبرا المصرية. ثم أبصرت النور مؤسسات مثل «المورد الثقافي» التي استطاعت سريعاً استقطاب أسماء مهمة في مجالات مختلفة أدباً وفناً وإنشاداً. وتأسّس مسرح «الجنينة»، ثم مسرح «روابط»، وأصبحت هذه الفضاءات مع «ساقية الصاوي» ملاذاً للفرق الموسيقية الخاصة. هكذا لقيت فرق مثل «وسط البلد» نجاحاً لافتاً، وكان توجّهها الأساسي دمج التراث الغنائي العربي بالغربي. واتسعت شهرة الفرقة بعد مشاركتها في فيلم «عودة الندلة». ومن أهم التجارب في سنوات ما بعد «الساقية» و«الجنينة»، فرق «الدور الأول»، «افتكاسات»، «بلاك تيما»، «سن شاين»، «أسفلت»، «الشارع» وغيرها.
وتتنوع اهتمامات الفرق بين تقديم التراث الغنائي بتوزيع موسيقي جديد، واعتناق الاتجاهات الموسيقيّة الطليعيّة في الغرب. «وسط البلد» لها أغنياتها الخاصة، وتستعيد أحياناً تجارب قديمة مثل فرقة «المصريين» التي أسّسها الفنان هاني شنودة. أمّا الفرق الغنائية التي تحمل أسماء أجنبية، فاختارت أغاني الروك والجاز و... الفلامنكو الذي تخصصت فيه كل من «يوركا» و«فلامنكا».