strong>تعقيباً على مقالة الشاعر والإعلامي حبيب يونس في «ثقافة وناس» (الأربعاء 19 آذار/ مارس)، جاءنا هذا الردّ الغاضب من الزميل أسعد أبو خليلأسعد أبو خليل
ماتت مي المر ميتة طبيعية. لو أنّ لبنان كان وطناً يحترم نفسه وقيمه، ولو أن شعب لبنان يحترم دستوره وتاريخه وضحايا اجتياحات إسرائيل لأراضيه، لماتت مي المر في زنزانة انفرادية موصودة، أو لانتهت في مقصلة لأنّ عقوبة الإعدام لا تزال سارية في لبنان. لكن لبنان خُلق ذليلاً وترعرع ذليلاً وينشأ بنوه على الذلّ وعلى الهوان. قل هو وطن متخصص في شرب الذل وفي أكل الهوان. ولبنان يقبل الإذلال الذاتي وإن كان يفضل الإذلال الخارجي، وخصوصاً إذا ما أتى على يد الرجل الأبيض. الذل والهوان هما جزء لا يتجزأ من الثقافة السياسية (والشعبية) في هذا البلد التعيس، المثقل بالأساطير والأكاذيب.
لهذا، فإنّ مي المر تلقّت شهادات مديح ورثاء من كل حدب وصوب في إعلام لبنان من دون استثناء. في هذا البلد الغريب العجيب يحترم الإعلام ويُجلّ من يبثّ الترّهات والخزعبلات والسموم العنصرية. وكان كل هذا من اختصاص مي المر. إن ترّهات وخزعبلات سعيد عقل ومي المرّ كان يمكن أن تؤدي بهما إلى عيادة طبيب نفساني بصورة عاجلة في أي بلد يلتزم معايير البحث العلمي في التاريخ والجغرافيا وفي علم اللغات. لكنهما يُكرّمان كفيلسوفين وكلغويين ـ لغويين لأنهما تحدثا بـ«اللغا اللبنانيّي». ولبنان يستسهل كلمة فيلسوف مثلما يستسهل كلمة شهيد. (لا يستكثر أو يستثقل لبنان كلمة الشهيد إلا على من يموت مدافعاً عن أرضه بوجه عدوان إسرائيلي غاشم). لكن مي المرّ تُعتبر شاعرة ومُفكرة وفيلسوفة في وطن الترمس. الصحافية مي منسى كتبت مرثية دامعة لها في جريدة «النهار»، وأشارت فيها إلى أن بعضهم اعترض عليها فقط لأنّها تتحدث عن التاريخ القديم. التاريخ القديم؟ أوَتهزأ مي منسى؟ نسيت مي منسى حقيقة المآخذ عليها أو أغفلتها عن قصد خداعاً ورياءً. لا علاقة للمآخذ بترّهاتها عن التاريخ القديم وعن المسيح. طبعاً، من منظور الدراسات الإنجيلية يُمكن التعامل مع كتابات المرّ ككتابات النازيّين عن الفروق بين السلالات البشرية والأعراق. لا علاقة للتاريخ والتأريخ والعلم بكل ما كتبته مي المر، ولولا جهل المؤرخين بها، شرقاً وغرباً، وهو جهل استحقته عن جدارة، لكانت صدرت ردود على كتاباتها المضحكة فعلاً لتناقضها مع الدراسات الجادة عن الفينيقيين وعن تاريخ المسيح. هي لم تكن أكثر من متطفلة متعصبة على العلوم الاجتماعية والكتابات المنشورة عن تاريخ الفينيقيين تتجاهل ترّهاتها عن حق.
أما كتاباتها عن المسيح فهي فريدة في خيالها وفي تلفيقها. لا يزال المؤرخون يبحثون عن تاريخ المسيح والدلائل التاريخية عن شخصيته، وعن جولاته القليلة جداً إن لم تكن معدومة. يمحّص المؤرخون (والمؤرخات) في أدلة ومراجع التاريخ لتبيان الفصل بين الديني الإسطوري وبين التاريخي المُثبت. لكن كتابات المرّ عن المسيح لم تأتِ من أي مرجع موثوق. يحار المؤرخون في العثور على مكان «قانا الجليل» ـ وهناك جدال في الموضوع ـ لكن مي المرّ تحدثت بثقة عن جولات للمسيح في قضاء صور وصيدا، وتضيف أنّه كان يستسيغ أكل السمك في مقاهي خيزران. ثم أضافت في اختلاقاتها، وكل ما كتبت في التاريخ لا يرقى إلى مصاف التاريخ، وإن كان يجب دراسته في مادة باب الهزل والجنون القومي في الثقافة الشعبية اللبنانية، أن المسيح كان محاضراً في «كلية الحقوق» (في الجامعة اللبنانية؟ فرع الفنار؟)
لم يكن مستغرباً أن تحظى المر بكل هذا التقدير والتكريم والمديح. في مسخ الوطن هذا تعلم أن جزار صبرا وشاتيلا نُصّب وزيراً، وأن إسرائيل نصّبت رئيسيْ جمهورية في غضون أسابيع فقط. تتوقع الأسوأ في هذا الوطن. لكن أن تقرأ ما كتبه حبيب يونس وفي جريدة «الأخبار» (الأربعاء 19 آذار/ مارس الجاري) هو أن تُصاب بالصدمة. حبيب يونس مرجع في التاريخ وفي الوطنية؟ وفي جريدة «الأخبار»؟
لكن من أين أتى حبيب يونس هذا؟ من المعلوم أن حزب حراس الأرز لا يشعر بحرية الحركة في لبنان في السنوات الماضية. كان تحالفه ـ الذيلي طبعاً ـ مع إسرائيل معروف ومُعلن وصريح. وأبو أرز كان ولا يزال من فريق الاحتلال الإسرائيلي في لبنان. وشارك حزب حراس الأرز في همروجة الطائفية في 14 آذار/ مارس، إلا أنّه شكّل إحراجاً لفريق السلطة في ما بعد. فاختار الحزب العمل السرّي وانضوى، لحماية نفسه، في إطار الأحزاب والحركات اللبنانية الموجودة مثل التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية لما لهما من مشروعية (قانونياً) في العمل السياسي. وكان أن أصبح حبيب يونس، من حزب حراس الأرز (سابقاً؟) من الفريق الإعلامي للتيار الوطني الحر. لكن أن تفتح «الأخبار» صفحاتها لحراس الأرز ولمريدي مي المر إهانة للقيم والمبادئ التي قامت عليها «الأخبار» (والتي أعلنها الرفيق خالد صاغية في مقالة صريحة).
طبعاً، ستقوم القيامة وُيقال كلام عن الديموقراطية، وعن حرية الرأي وعن دموع السنيورة، ومعظم كلام الديموقراطية باطل في لبنان، كأن يُستعمل لا لمنع التخوين بل ضد محاكمة الخيانة بذاتها كما ينص عليها القانون. وسُيقال هذا تخوين، والتخوين مشروع دستوراً وقانوناً، على أن يجري ضمن القانون، وهو سار خارج القانون في وسائل الإعلام الأميركية بعد 11 أيلول. إلا في لبنان. إذ حمت الديموقراطية، في نسقها الكريه، عملاء جيش لحد كما سمحت لقائد جزاري صبرا وشاتيلا أن يتبوأ منصباً وزارياً بإرادة رفيق الحريري والنظام السوري. ثم الديموقراطية لم تكن يوماً إذابة الفروق بين العقائد أو بين الصحف. وجريدة «النهار» تحرص على نشر كل بيانات حزب حراس الأرز، وخصوصاً أنّ الكثير من كتّابها، مثل بيار عطا الله وغيره، يتناغم مع عقيدة حراس
الأرز. لكن أن تتيح «الأخبار» لعقيدة حراس الأرز بأن تعبر عن نفسها وأن تبث سمومها شذوذ عن خط «الأخبار» كما نشأت أو كما عهدي وعهد قرائها بها.
مي المر، لمن لا يعلم، من مؤسسي عقيدة حراس الأرز. كانت تكتب في جريدة لبنان التي تحوي كلاماً عنصرياً ضد العرب، وضد شعب فلسطين، وتدعو إلى تحالف صريح مع العدو الاسرائيلي.
كان إتيان صقر وجماعته يريدون للبنان أن يتخلص من عقدة «الجمل»، كما كان يسميها هو (راجع كتابه «فصول في الوعي القومي»). كان الحزب يدعو صراحة لقتل الفلسطينيين في لبنان. الحزب هو نموذج للنازية اللبنانية. والنازية اللبنانية موجودة في آثارها، وفي لبناتها، في الثقافة السياسية والشعبية اللبنانية، وهي تفسر العنصرية التي اشتهر بها شعب لبنان عن جيرانه. نازية حراس الأرز اخترعت تاريخاً للبنان شارك في رسمه سعيد عقل ومي المر. والحزب كان يختلف عن القوات اللبنانية لا في الموقف من إسرائيل، بل في مسألة المجاهرة في التحالف ـ الذيلي طبعاً ـ مع إسرائيل. ويروي موردخاي نيسان، الكاتب الإسرائيلي المتطرّف الذي تولى كتابة سيرة أبو أرز، أنّ بشير الجميل، نتيجة طموحاته التي تخطت في مرحلة ما بعد أحداث زحلة التي افتعلها نطاق كانتونه الطائفي (وهي غير الكانتون الطائفي الاشتراكي)، كان يؤمن بالسرية أو التقليل من العلنية في التحالف ـ الذيلي طبعاً ـ مع إسرائيل.
لكن مي المر انتمت إلى مدرسة متطرفة في النازية. هي أصرّت على الذهاب إلى إسرائيل لشكر الليكود على اجتياح وطنها، وتتحدث مي منسى ويتحدث حبيب يونس عن حبّها للبنان. آه لو قرأ اللبنانيون ما فعلته المقاومة الفرنسية مع المتعاملين والمتعاملات مع الاحتلال النازي. إضافة إلى الإعدامات الميدانية التي توالت بعد التحرير، فإنّ المقاومة الفرنسية كانت تُسيّر مواكب لنساء قبلن احتساء الجعة فقط مع الجنود الألمان. كانت شعورهنّ تُُقصّ وكن يُجبرن على السير الطويل في شوارع البلدات والمدن، حيث كان الناس يلقون عليهنّ الحجارة ويمطروهن بالبصاق والشتائم. ومنهن مَن تعرض للقتل من الناس الغاضبين بعد التحرير. لو كان لبنان بلداً يحترم نفسه لما ذُُكرت مي المر إلا سياق ذكر المنبوذين والمنبوذات في التاريخ اللبناني.
مي المر سُعدت بزيارة إسرائيل، وزادت عليها زيارة خاصة لتأييد أرييل شارون بعد التحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا.
مي المر واحدة من مؤسسي العقيدة النازية اللبنانية. لا غضاضة في أن يذكر الإعلام اللبناني والتاريخ مي المر... لكن تحت عنوان «العار في تاريخ لبنان» فقط.