strong>حسين السكاف لو لم يكن صانع «فتنة» هو غيرت فيلدرز النائب الهولندي الشعبوي ومؤسس حزب «الحرية» اليميني المتطرّف، لما حظي الشريط بكل هذا الاهتمام. هكذا رأت بعض الأصوات التي انطلقت في الساعات الأولى من بث الفيلم على الشبكة العنكبوتية. وقد بلغ عدد متصفحي الشريط أربعة ملايين في اليوم الأول من عرضه الخميس الفائت. هذا الاهتمام جاء بسبب المكانة السياسية التي يحتلها فيلدرز كمشارك في صنع القرار السياسي لدولة أوروبية مهمّة. لكنّ الشريط الذي يقوم على عداء معلن وواضح للعرب والإسلام، تبدو كلمة عنصريّة ضعيفة في توصيفه، من المستبعد أن يُعرض في صالات السينما أو على محطات تلفزيونية كبرى.
ولا يمكن، أساساً، إدراج «فتنة» ضمن التصنيفات السينمائية المتعارف عليها... إلا باعتباره فيلماً وثائقياً تافهاً، على مستوى الشكل والبنية الفنية والأسلوب. إذ يصفع المشاهد الأسلوب العادي الذي بوسع أي مبتدئ أن يتجاوزه، وسهولة التنفيذ والحصول على المادة ومعالجة الموضوع المطروق. لم يعتمد الفيلم أي كاميرا سينمائية أو تلفزيونية لتصوير المشاهد، باستثناء اللقطة الأخيرة التي تدعو إلى تمزيق صفحات القرآن. الشريط مجرّد تجميع وتوليف لصور فوتوغرافية ومقاطع تلفزيونية من الأرشيف، تدعم حجّة فيلدرز في الرسالة التي أراد تمريرها: «الإسلام خطر يهدّد الأمن والسلام والديموقراطية في أوروبا، وعلينا أن نحاربه بكل ما نملك». هكذا ببساطة تتّضح فكرة الفيلم الذي أثار غضب الأوروبيين قبل العرب والمسلمين.
بعد الرسوم الكاريكاتورية التعيسة الذكر التي نشرها الدنماركي كورت عام 2006، يأتي فيلم «فتنة» ليؤجج جراح الأمس القريب، ويصبّ الزيت على العلاقات المتوتّرة التي يشوبها أكثر من سوء تفاهم ــــ بل لنقل كميّة مخيفة من الأفكار المسبّقة ــــ بين الإسلام والغرب، أو بين الجاليات المسلمة والقيم السائدة في الدول الأوروبية المضيفة. وإذا كانت تلك الرسوم قد استفزّت المسلمين في العالم، فإن «فتنة» موّجه إلى الأوروبيين لتحذيرهم من الإسلام و«مخططاته للهيمنة على أوروبا والعالم» (!) وهذه الفكرة تتّضح جلياً في الفيلم، وفي النص المكتوب في نهايته: «عام 1945، انهزمت النازية في أوروبا. وعام 1989 انهزمت الشيوعية في أوروبا أيضاً. الآن على الإسلام أن يُهزم ويلغى... أوقفوا المد الإسلامي الذي يهدف إلى إلغاء مبدأ الحرية».
يبدأ الجزء الأول من الفيلم، بعرض الرسم الكاريكاتوري الذي يصوّر رجلاً ملتحياً، وقد تحوّلت عمامته قنبلةً موقوتةً يصاحبها صوت تكتكات جهاز التوقيت. ثم يستعرض الشريط أقوال شيوخ وخطباء، وحتى أطفال مسلمين، عن ضرورة محاربة اليهود، وخصوصاً معتنقي الديانة المسيحية. وقد اعتمدت الفكرة على آيات قرآنية ظهرت مبتورة النص والمعنى. هكذا، حوى القسم الأول خمس آيات قرآنية، جاءت بصوت مقرئ من قرّاء الحرم المكي وبمثابة الممهّد لما سيُعرض من مشاهد. بعد الآية 60 من «سورة الأنفال» (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم)، نشاهد لقطات من اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر)، ثم تفجيرات في أماكن مختلفة، تليها تصريحات وخطب شيوخ تطالب بقتل «الكفّار» ومحاربتهم في عقر دارهم... ثم صور لجثث وضحايا التفجيرات في إسبانيا ولندن. والمهم هنا هو ما يوثّقه الفيلم على لسان شيوخ مسلمين يطالبون بقتل اليهود وغير المسلمين. هكذا تتوالى أحداث الجزء الأول. بعد كل آية قرآنية، نشاهد أحداثاً دموية وآثار تفجيرات وتصريحات لمتطرّفين مسلمين يباركون القتل والتدمير.
أما الجزء الثاني، فجاء بعنوان تحريضي مغرض، لا يمت للواقع بصلة: «هولندا تحت السيطرة الإسلامية». نرى امرأة منقّبة تدفع عربة طفل في أحد الشوارع الهولندية، وفي اللقطة التالية رسم بياني يمثّل ازدياد أعداد المسلمين في هولندا.
وتحت عنوان «هولندا في المستقبل»، نشاهد شباناً معصوبي الأعين يُقتادون إلى الإعدام، ثم صوراً فوتوغرافية لأطفال حاملين سيوف التطبير ورؤوسهم مدماة. وصوراً أخرى لختان البنات... فالصورة الشائعة عن إعدام المرأة الأفغانية في ملعب لكرة القدم... ثم صفحات الجرائد التي تناولت جرائم الشرف في أوروبا، والتي ارتكبها أفراد الجاليات الإسلامية. ومن ضمنها تصريحات قاتل المخرج الهولندي ثيو فان غوغ الذي قال إنّه ليس نادماً على فعلته.
بعد ذلك مباشرة، تظهر صورة غيرت فيلدرز على الصفحة الأولى من صحيفة «ديلي تلغراف» مع عنوان عريض يشير إلى تهديد تنظيم القاعدة لفيلدرز شخصياً. وينتهي الشريط بصورة يد تمسك صفحةً من صفحات القرآن ثم تختفي الصورة لنسمع صوت تمزيق الورقة. تظهر بعدها مباشرة جملة بالهولندية تقول إن صوت التمزيق هو لصفحة من دليل الهاتف. (عن هذه اللقطة بالذات، قال فيلدرز رداّ على اتهامه بتمزيق صفحات القرآن: «أنا لم أمزق القرآن... بل دعوت المسلمين إلى تمزيقه»!). وأخيراً تعود تكتكات القنبلة الموقوتة التي بدأ بها الفيلم، ثم تنفجر لتظهر كلمة الفتنة... فصورة غلاف القرآن التي ينتهي عليها الشريط.
وسرعان ما توالت الاحتجاجات على هذه الفضيحة الأخلاقية والسياسية. صلاح الدين موسيقي راب من أصول عربية، صُعق عندما شاهد في الفيلم صورته ــــ المأخوذة من غلاف ألبومه الذي أصدره أخيراً ـــ وقد استخدمت في «فتنة» لتمثّل قاتل ثيو فان غوغ. وأثار الشريط حفيظة الوسط السياسي الدنماركي، الذي رأى أنه «تأليب رخيص على الإسلام، يمهّد لسياسة خطيرة تُذكّرنا بسياسة النازية قبل تنفيذ المحرقة».
أمّا أهم المعترضين، فكان كورت فيسترغارد، الذي أثارت رسومه الكاريكاتورية غضب المسلمين في العالم! إذ صرّح أنه لم يعطِ الإذن لفيلدرز لاستخدام رسومه بهذه الطريقة غير الأخلاقية! فالفيلم على حد قوله يمثّل إهانة لمجموعة كبيرة من سكان الأرض، ثم أضاف: «الرسوم التي نُشرت عام 2006 لم تكن تمثّل النبي، بل الإرهاب السياسي الجديد الذي يتّخذ من الإسلام غطاءً له، وبهذا فقد أساء فيلدرز استخدام رسومي بشكل سخيف. وأنا أعمل الآن، بالوسائل القانونيّة، لإزالة رسومي من الفيلم».