strong> نوال العلي
•علم الاجتماع عارياً بعد انحسار المرجعيات الأيديولوجية

أبحاثه من أبرز المراجع العربيّة في مجال سوسيولوجيا الأدب. المفكّر التونسي الذي يقيم في بيروت، ويشتغل على رصد تجلياتها في المخيّلة الإبداعيّة، يتوقف عند هيمنة الخطاب الذاتي، ويستبعد وجود أي فرصة لنموّ علم الاجتماع في العالم العربي


حين يُسأل عن سيرته الذاتية، لا يجعل الطاهر لبيب من ذلك مدارَ الحديث، بل يتساءل عن شرعية السؤال ذاته: «لا أظن أنّ فائدة السؤال هي في الإجابة عنه بقدر ما هي في التساؤل عن دلالته. لقد انتشرت ظاهرة الإقبال على السيرة الذاتية، وأصبح السؤال موجّهاً إلى كل من له جمهور، سواءٌ كان مفكّراً أو مغنّياً أو... بائع كلاب!

وإذا حصرنا الحديث في المثقفين، فهناك انتقال واضح من التراجم إلى السير الذاتية، أي من خطاب موضوعه الآخر إلى خطاب ذاتي. ويربط لبيب الانتشار الحالي وغير المسبوق للسيرة الذاتية، «بانتشار النزعة الفردانية وتراجع السيرة الجماعية لصالح الاستعراضات والنرجسيات». الأمر الذي حوّلته وسائل الإعلام إلى حاجة «حتى في مجال الفكر، فمن لا يسمعه أو لا يشاهده الناس في الاستعراض، يبقى مجهولاً أو في حكم المفقود. وهذا سياق وقدر جديد لمصير المثقف».
وإذا كان الحديث عن السيرة يقتضي بالضرورة الحديث عن المدن، فبيروت ــــ حيث يقيم هذا المفكّر التونسي ويعمل مديراً عاماً للمنظمة العربية للترجمة ــــ هي المدينة التي ينحاز إليها. إذ جاءها «منجذباً» بصورة عنها في مخياله بناها عبر كتابات تتحدث عنها، و«عن مسارات إبداعها في الفكر والسياسة تفصح عن ملاجئ العبارة الحرة فيها، أو تحتل فيها مكانة ست الدنيا والخيمة الأخيرة».
بيروت التي يحاول لبيب الكتابة عنها، هي تلك التي تحوّلت موضوعَ إبداع، وهو يرى أنّه قلّما تحوّلت «مدينة جمالياً إلى امرأة في الصورة الشعرية مثلما تحوّلت بيروت. إن جغرافية الجمال والنكهة التي تنسجها الأشعار لها، هي جغرافية الجسد في غزلٍ عربي، ولهذا فإن عشق بيروت هو عشق امرأة».
لكنّ قول لبيب المحبّ لبيروت لا يتضمن نفياً لما فيها مما لا يحب أن يرى. «المشكلة أنّ المحب يرى المحبوب كما يريد أن يراه، لا كما هو في الواقع. وهي حيلة قديمة لتثبيت الحب. أماّ أن تكون لبيروت ملامح بؤسها وحزنها، فهذا أمر مفروغ منه ولا تحتاج معاينته إلى عناء البحث الطويل. هناك تناقضات كبيرة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، يمكن الحديث عنها مطولاً، خارج علاقة الحب التي تعني أنه إذا ناقضت الصورة الواقع، فإن التمسك يكون بالصورة، ما دامت أجمل منه».
تعود شهرة الطاهر لبيب، في بدايتها، إلى كتاب «سوسيولوجيا الغزل العربي» (1974)، ثم لاحقاً إلى «سوسيولوجيا الثقافة» (1979). الأول صدر بالفرنسية ثم في ثلاث ترجمات مختلفة إلى العربية، والثاني مجموعة محاضرات، إضافة إلى ما كتبه من مقالات كان لها أثرها في مسار السوسيولجيا العربية. وقد رأى بعضهم أنّ نصوصه هي نصوص مؤسسة في مجالها.
من ذلك اهتمامه بغرامشي في مرحلة كان لا يزال فيها مهمّشاً، «وهو ما أحدث تحوّلاً في رؤيتي للظواهر الثقافية والمثقفين، لأنه يعطي لكليهما مكانة غير مألوفة في الفكر الماركسي، ثم لأنّه بدا لي جنوبياً أو تخومياً، وبالتالي أقرب من غيره إلى اهتمامات المثقف العربي». وقد أصدر الطاهر لبيب كتاباً جماعياً بالفرنسية، ضمّ مقالاً مطولاً له عن «غرامشي في الخطاب العربي» (نُشر بالعربية في مجلة «الطريق» اللبنانية)، وفيه تتبّع مسار غرامشي في الخطاب العربي، ليكشف «الفرق بين التناول المشرقي الذي جعل منه مناضلاً، قبل كل شيء، والتناول المغاربي الذي جعل منه مثقفاً، قبل كل شيء».
وإذا كان غرامشي غائباً عن الخطاب العربي، فإن لبيب يعزو ذلك إلى «دخوله هذا الخطاب من دون غرامشية، أي مجزّءاً، بلا نسقٍ فكري سياسي متكامل، أي حسب الحاجة إليه». على أنّ حال غرامشي هذه تشبه حال غيره من كبار مفكري العالم في الخطاب العربي، لهذا يتساءل لبيب عن «الميكانيزمات الغريبة التي تجعل أغلب المفكرين تسوء حالهم في الخطاب العربي، بدءاً بنقل فكرهم، مجزّءاً أو مشوّهاً، من دون أن يثير ذلك غضباً، ولو باسم المعرفة، على الأقل».
لقد كان الاهتمام بغرامشي في مرحلة البحث عن «المثقف العضوي»، لكن هل كان هناك فعلاً مثقف عضوي عربي، بمعنى المثقف الذي يرتبط فكره بطبقة اجتماعية صاعدة، أو في طريقها إلى الصعود؟ يشير الطاهر لبيب إلى أنّ «كثيرين، وأنا منهم، كنّا نعتقد أنّ هناك مثقفاً عضوياً تظهر نماذجه هنا وهناك. ولقد ذهب ضحية هذا الاعتقاد كثيرون، منهم على سبيل المثال في لبنان مهدي عامل وحسين مروّة. والخطأ كان في غياب الرؤية الموضوعية للطبقات ولطبيعة الصراع بينها، وبالتالي في استشراف خاطئ لمصيرها. فعضوية المثقف لم تكن مرتبطة بمصير الطبقات الاجتماعية، بقدر ارتباطها بالأيديولوجيا التي تُصاغ حولها. ولعلّ من نكد الدنيا على غرامشي أن يكون مثقفه التقليدي أكثر عضويةً، اليوم، من مثقفه العضوي في العالم العربي والإسلامي. أين مثقف الطبقة العاملة اليوم، من المثقف الذي يقتات الرعب من ماضٍ سحيق؟».
وعندما يتم التطرق مع لبيب إلى وضع المثقف العربي اليوم، يربط تسيب المفهوم بانسلاخه عن سياق تاريخي يحدده، بدءاً بترجمة كلمة intellectuel التي يبين أنّها ظهرت تعبيراً عن رد فعل جماعي محدد، في سياق محدد، إذ كان هناك التقاء نخبة فكرية حول موقف فكري سياسي تجاه وضع مرفوض». في المقابل كانت ولا تزال رؤية المثقف العربي لذاته ورؤية الآخرين له، مرتبطة بالنظرة القديمة للأديب أو الكاتب، ولعالم الدين. ولذلك هو يتحاشى القطع مع معارفهم، إن لم يمزج بينها في خطابه. وليس مصادفةً أن تختلط الأنساق والمرجعيات والأزمان في الخطاب العربي السائد الذي يهادن ماضيه، حتى عند نقده، من دون إقدام على إعلان قطيعة معه. القطيعة لا تزال فرضية غير مكتملة، وليس لها حتى الآن، مقوّمات نظرية متماسكة ولا مقاربات واضحة».
وعندما يُسأل الطاهر لبيب عن الفرصة الذهبية لإعادة بناء السوسولوجيا في هذه المرحلة التي تراجعت فيها المرجعيات الفكرية والإيديولوجية، يجيب أنه لا فرصة للسوسيولوجيا العربية، لأنّه «ليس من فرصة ذهبية لعلم لم يتهيّأ لها». ذلك أنّ اعتناق الحركات المعرفية والفكرية السياسية ذات التوجّه الماركسي للنزعة النقدية في علم الاجتماع، بعدما نشأ في العالم العربي في ظروف إمبريقية (تستند إلى التجربة الميدانيّة)، كان اعتناقاً لنزعة غير ناضجة، وهو ما «جعل المرور من المعرفة إلى الأيديولوجيا أمراً سهلاً، لا يثير تساؤلات أو تحفظات أيبيستيمولوجية». والنتيجة «أنّ علم الاجتماع الذي أراد بعضهم أن يتحول به من الظرفية الإمبريقية إلى نقد ما هو بنيوي، سقط في الأيديولوجي. وهكذا كانت الأيديولوجيا على حساب المعرفة. وعندما تراجعت المرجعيات الأيديولوجية الكبرى، تعرّى علم الاجتماع وظهر أضعف مما كان عليه. وإذا كانت هناك محاولات جديدة للستر المعرفي، فإنها تصطدم بعراقيل جديدة، وخصوصاً في السياسة والدين. ومن التوهّم القول إنّ نمطاً عقلانياً وحراً من المعرفة يمكن أن ينبني في مجتمع لا تزال فيه السلطة تستمدّ قوّتها من توظيف اللاعقلاني ومن كبت الحريات».