strong>ياسين عدنان *
عزيزي قاسم،
رويدك يا صديقي ودعكَ من خطوتنا الوشيكة الآن. لنأخذ هدنتنا الافتراضية ولو لدقائق. واسمح لي بأن أسترجع معك اللحظةَ خطوتنا الأولى.
خطوتي أنا على الأقل.
هل تذكُر؟
كان ذلك قبل 10 سنوات. ربما أكثر بشهور... لم تكن «جهة الشعر» أكثر من كوّة ضوء صغيرة هي موقع «قاسم حداد» الشخصي عندما جئتَ إلى الرباط. كنتُ يومها برفقة العماني النبيل عبد الله الريامي نفكّر في حانة صباحية.
بيرةُ الصباح تحت سماء الرباط المشرقة وفي جوها المعتدل على الدوام كأنها كأسٌ من الجنة.
لكنك اقترحتَ علينا جنة أخرى. فكانت «بغثة الصديق»...
- ماذا تقول يا قاسم؟ مقهى ماذا؟ إنترنت؟
سألتُ صحبي من أدباء الرباط وشعرائها فإذا بهم أجهلُ مني أنا المراكشي الغريب. سألنا طويلاً قبل أن نجد من يطمئننا ــــ أو تطمئننا إذا توخينا الدقة، فقد كانت امرأة، هل تذكر؟ ــــ إلى أن هناك مقهى ينوء اسمُه بمثل هذه الرطانة الغريبة في حي أكدال.
جرجرنا أرجلنا وراءك عبد الله وأنا. لم نكن مقتنعين تماماً. ومع ذلك لم نتلكأ. بلى، فقد تلكأنا قليلاً.
لكن هناك في المقهى ما إن تحلقنا ثلاثتنا حول الكومبيوتر حتى انفتح أمامنا القمقم لأول مرة... وخرج المارد الجبار:
www.qhaddad.com
لم يكن هذا المارد غيرك أنت:
صورتك، شاربك الكث، نظرتك الحزينة رغم سحابة الفرح البيضاء التي تظلل روحك في النص والحياة، قصيدتك، وأزرقُك الهشُّ المستحيل.
في تلك اللحظة بالذات، بدوت لي نبياً. عقدت الدهشة لساني. الدهشة شخصياً، وليس الكلمة التي في المعاجم.
(.......)
غادرتُ الرباط إلى جنوبي القصي، وبقيت هناك لأكثر من سنتين أنتظر. وما إن فتح أول سايبر كافيه أبوابه في الجوار (كان باباً واحداً، صغيراً وضيقاً في الواقع)، حتى التحقتُ بكم على الفور. عائلة كاملة كانت بانتظاري على حافة الضوء: أنت في المنامة. أخي طه في بروكسيل. بيلين خواريث في غرناطة. والآخرون هنا وهناك.
كان قطار الجهة انطلق لينهب السنين والمحطات والجغرافيات الشعرية المتناثرة بعدما أطلق صفيره الأول بحزم. وما إن وضعت خطوتي على العتبة الزرقاء، حتى استغرقَتْ مقصورات الجهة بردهاتها الشعرية المدهشة ومحطاتها المتلاحقة جزءاً كبيراً من وقتي وأحلامي طوال هذه السنوات. وبدأتُ أشتغل منذ ذلك في أجمل مشروع أدبي أخلصتُ له بعد «الغارة الشعرية»: مغامرة أول الشعر ومطلع العنفوان.
الكثير من أصدقائي المغاربة تسلّلوا عبر وساطة الجهة الظليلة إلى قارئهم العربي. والكثير من الشعراء العرب من مصر ولبنان والشام والخليج صارت قصائدهم وزوابعهم الإبداعية تهبُّ مباشرة داخل البيت الشعري المغربي الذي فتح شرفاته تماماً على رياح الجهة: جهة الشعر. حتى المنافي، مع مكرنا الإلكتروني المرح وانفتاح رياحنا على كل المهبات، ما عادت منافي...
أمّا عبد الله الريامي، الكسول الذي تأخر طويلاً قبل أن يقتنع بدرسك يا قاسم، فقد صار له إيميل هو الآخر. لكنه لا يستعمله إلا نادراً على ما يبدو. فاتصل به رجاءً عبر الإيميل من ملاذك البرليني حيث تعتكف هذه الأيام. لكن، لا تنسَ أن تبلغه محبتي. ولتكن غارتك الإلكترونية عليه مثل «بغثة الصديق»، تلك التي من دونها لا يكون الشعر شعراً ولا الصداقة صداقة.
عزيزي قاسم
الخطى تصطخبُ تحت أقدامنا في اتجاهات لا تخطر للطرق الطريدة على بال. فلنواصل إذاً منذ الغد... في الاتجاهات كلها.
لقد صارت للجهة جهات، فلنفتحها إذاً على المزيد من المَهبَّات.
محبتي لك وصداقتي الدائمة
أخوك: ياسين عدنان


* عضو أسرة تحرير جريدة «الأخبار»، وموقع «جهة الشعر»، ومحرر «دفتر أفكار» على الموقع عينه www.jehat.com