فاطمة داوود
وسط منافسة شرسة، جمعت أرباب صناعة الأزياء في العالم،
أسدلت الستارة قبل أيام على عروض أسبوع الموضة الباريسي: جان بول غوتييه قدّم دفعةً واحدةً تشكيلات تناسب كلّ فصول السنة. أما حنا وشيرين توما، فدعَوا الحضور إلى سبر أغوار البحار



جان بول غوتييه: نجمُ لكلّ المواسم!

مرةً جديدة أثبت المصمم العالمي جان بول غوتييه أنّه أحد أبرز روّاد الموضة الفرنسية وصنّاع الخياطة الراقية في هذا القرن. العروض التي قدّمها ضمن أسبوع الموضة الباريسي الذي انتهى قبل أيام، كرّست قدرته اللافتة على ترجمة أفكاره بتصاميم مبتكرة على خشبة العرض، فكانت الدهشة سيدة الموقف.
عرضُ باريس جاء مناسباً لكل المواسم والفصول، داعياً الرجال والنساء معاً للإبحار في عالم غوتييه الساحر. إذ كشف النقاب عن تشكيلات عدة لعام 2008: أزياء الربيع والصيف، وبعض من مجموعة الخريف والشتاء المقبلة، ثم تصاميم الحفلات الكبرى والسهرات، ونزهات بعد الظهر، وأخيراً الألبسة العملية...
وعلى رغم جنوحه صوب الغرابة، حرص المصمم العالمي في مجموعتي المرأة والرجل، على تخصيص مكانة مستقلّة لكل منهما. هكذا، تجلّت الأنوثة صارخة في تشكيلة السيدات، فيما سيطرت ملامح القوة والنظرات الثاقبة على مجموعة الرجال.
وهكذا، أطلّت العارضة بخفر شديد، تتأبط مظلّة شمسية مصنوعة من «الموسلين»، علّها تقيها حرّ الصيف، أو ربما لتخبئ خلفها نظراتها الآسرة. كما برزت الفساتين الطويلة، وقد ستر بعضها مفاتن الجسد، فيما كشف بعضها الآخر عن الصدر والظهر والذراعين والساقين. وكلّها دلّت على إيحاءات مستقاة من أشكال
الأسماك.
الألوان والقصّات اختيرت بعناية شديدة، فتميّز العرض بتدرّجات الألوان وانسياب ثنيات الأقمشة الفاخرة، بعضها خلف بعض. كما برزت الألوان الذهبية بكثافة شديدة، وتصدّرت الأقمشة الملوّنة والمطبّعة بالورود قائمة العرض، سواء مع الفساتين الطويلة أو السراويل الفضفاضة والسترات الخفيفة التي وصلت حدّ الخصر أو أطول بقليل. وظهرت الأقمشة المقلّمة بين الأبيض والأسود، عرضياً وطولياً.
وعلى رغم سطوة الألوان الربيعية كالأبيض والوردي والزهري والبيج والأبيض التي ضجّ بها العرض، برزت الألوان الداكنة كالأسود والبني والرمادي الداكن، لتضفي مزيداً من الغموض على الفساتين التي اتّخذت شكل حورية.
كما استغلّ غوتييه العرض الباريسي ليكشف عن جزء بسيط من مجموعة الشتاء النسائية لموسمي خريف وشتاء 2008ــ 2009. وهي جاءت دافئة مع بروز الأسود والبني الغامق. كذلك تألقّت مجموعة الرجال لخريف وشتاء 2009 بألوان البنيّ وتدرّجاته والأسود وقليل من الأحمر. مجموعةٌ مبهرة طغت عليها مظاهر الكلاسيكية واللياقة، فبرزت السترات الطويلة والمعاطف الجلدية وأخرى من المخمل، وسراويل الجوخ والقطن و«التويد» إلى جانب اللمّاع والمونّس. أمّا السمة الأبرز، فتجلّت في ظهور المظلاّت بين أيدي العارضين واعتلائهم القبعات الإنكليزية، بعدما التحفوا بالشلحات الصوفية. كما كان لربطات العنق أهمية بالغة أكسبت إطلالة الرجل مزيداً من الجديّة والكلاسيكية، على رغم ظهور بعض القراصنة على خشبة العرض...
غوتييه (1952)، المولود في باريس، عمل لفترة وجيزة كمقدّم برامج تلفزيونية، ليخوض بعدها تجربة الخياطة لدى دار بيار كاردان (1970)، أي في سنّ الثامنة عشرة. ثم انتقل مباشرة إلى دار أزياء جاك استيريل وبعدها الى جان باتو، ليكتسب عصارة خبرة العمالقة في عالم الموضة. وعلى رغم صغر سنّه آنذاك، تمتع غوتييه بذكاء حادّ فخططّ جاهداً عام 1976، ليقدّم أولى عروض الـ «هوت كوتور» تحت عنوان «غوتييه باريس»، ضمن أسبوع الموضة الباريسي. وكان الحظّ حليفه دوماً، فحقق النجاح السريع، مكرّساً اسمه كأشهر مصممي الأزياء حول العالم، ومكتسباً ثقة ملكة البوب مادونا، فرافقها في جولتها الغنائية العالمية عام 1990.
إلا أن غوتييه لم يكتفِ بسبر أغوار عالم النساء بل أرضى رغبات الرجال، بعد أربع سنوات فقط من طرحه مجموعة النساء. وقد اشتهر بتقديم أسلوب متميز مستوحى من الثقافات الشعبية، وخصوصاً تلك المنتشرة في شوارع المدن وأزقة القرى. وهذه الثقافات، حسب قوله، مثّلت له مصدراً ملهماً لنسج تصاميم تتناغم مع مختلف نساء العالم. وقد سبب صدمات متتالية لمتابعي عروضه حين اختار عارضات متقدّمات في السنّ وسمينات، يفتقدن معايير الرشاقة المتعارف عليها في عالم عروض الأزياء...



حنا وشيرين توما اكتشفا أسرار المحيط

لم يكن أسبوع الموضة الباريسي حكراً على المبدعين الأوروبيين فقط. كالعادة، احتشد مصمّمو لبنان ليقدّموا أفكارهم المتجددّة في عالم الخياطة الراقية. وبينهم، برز المصممان حنا وشيرين توما اللذان دأبا منذ مواسم على طرح تشكيلات تمزج بين أصالة الشرق وعصرية الغرب.
في مجموعة ربيع ــ صيف 2008، فاضت أمواج البحار وتجمّع المحيط كلّه على خشبة العرض الباريسية ليكشف الثنائي توما عن رؤية مختلفة لامرأة العام الحالي. ومن وحي عنوان المجموعة «أوسيان» (océane)، نسج توما خيوطاً زرقاء وملوّنة من أعماق البحار، فتمازج الأزرق والأصفر والأبيض في تصاميم ساحرة.
ضمّت التشكيلة فساتين طويلة لامست الأرض، وقد اشتدّ بعضها عند الخصر ليبرز دقّته وهيافته، فيما اشتدّ بعضها الآخر أعلى الخصر ثم انسدل على الوركين حتى الأسفل، وقد غطّت الصدر أوراق متناثرة، كأنّها أعشاب نبتت على الصخور البحرية.
لم يكن صعباً على توما نقل ما يجري وراء البحار، فالعالم تحت الماء يضجّ بمخلوقات متعددة الأشكال والألوان. هنا المرجان والصدف وهناك قناديل البحر، وبينهما الأسماك تروح وتجيء على إيقاع ضوء الشمس المتسلّل الى أمتار طويلة، والحوريات يختلن بجرأة، كما لو كنّ في استعراض راقص.
هكذا، برزت الألوان المضيئة بتدرّجاتها المنوعة، كالأخضر والأصفر والزهري والأزرق والبنفسجي والبني المحمّر، وتمازجت على القماش المطبّع بأعشاب البحر: من «الشيفون» و«الموسلين» إلى «الأورغنزا» و«الدانتيل» و«البروكار» و«الزيبرلين» وبعض الأقمشة المطبّعة بـ «الباييت» اللمّاع الشبيه بقشرة السمك. فضلاً عن ابتكار المصمّمين لأقمشة خاصة كالورق المقاوم للاحتراق الذي عولج وفق تقنيات محددة حتى يحمى من التمزيق، ما يدلّ على رغبة توما بإدخال عناصر جديدة تبعد عن مجموعتهما التقليد والكلاسيكية.
شيرين توما وصفت فكرة العرض بأنّها تعبير عن رغبة دفينة في كشف أسرار المحيط. وتحرص على تفسير اختياراتها للألوان والأقمشة: فالأصفر الفاقع يدلّ على انعكاس الأضواء الليلية على السمك الملوّن بالأصفر والأسود، وحبّات «الشواروفسكي» ليست سوى قطرات الماء المعلّقة على الصخور والنباتات البحرية. كذلك ضجّ العرض بحبّات اللؤلؤ والمرجان والخيوط المعدنية كالفضي والنحاس.
وقد بدأ العرض بصوت الرعد المدوّي كأنه ينذر بهطل المطر ثم ما لبث أن اختفى الصوت تدريجاً، في إشارة الى انتهاء فصل الشتاء وقدوم موسمَي الربيع والصيف مع تصدّر ألوان الزهري والأبيض.
أمّا العروس، فكانت أشبه بزوجة «بوسيدون» (Poséidon) إله البحار لدى الإغريق. وقد اختالت بهدوء في فستان زفاف أبيض ضخم رصّع بحبات «الشواروفسكي»، وأرفق عند الصدر والكتفين بأكسسوار مرصّع أيضاً على شكل أعشاب البحر... ولم تكن هذه العروس المكلّلة بالتاج سوى «عروس المحيط»: «أوسيان».
شيرين توما، مصمّمة الأزياء الآتية من عالم هندسة الديكور، أدركت عند خوضها مجال الخياطة الراقية أن أسلوب التميّز هو أقصر الطرق لإرضاء جميع النساء. وخصوصاً بعدما اكتسبت من إرث والدها حنا توما سنوات الخبرة الطويلة، مع فارق مهمّ بينهما، أن شيرين عملت منذ سنوات عدّة على إشهار التصاميم والتشكيلات أمام الإعلام والرأي العام العالمي، فيما عمل والدها طيلة 40 عاماً بصمت على دار أزيائه الخاصة