روتردام ــــ وائل عبد الفتاح
«الراديكاليون الأحرار» عنوان غريب لمهرجان سينما، لكنّ «مهرجان روتردام السينمائي» قائم على المغامرة التي يمنحها الثقة جمهورٌ كبير. روتردام آخر المدن التي دمرها جنود النازيين قبل الانسحاب، عادت إلى الحياة سريعاً بروح منفلتة عن تقاليد مدن أوروبا العتيقة... ومتابعة مهرجانها الذي بات عمره اليوم ٣٧ عاماً، مغامرة غير مضمونة النتائج. قد لا يخرج المرء من هنا بمشاهدة أفلام مهمّة، الا أنّ التمرد على روح المهرجانات التقليدية يفتح المجال أمام علاقات أحدث بالسينما يربطها بفنون بصرية أخرى. ولم يكن مهرجان آخر ليُدرج في مسابقته الرسمية 15 فيلماً، من أعمال أولى أو ثانية لمخرجيها (جائزة مسابقة النمور 15 ألف يورو لكلّ من الأفلام الثلاثة الروائية الفائزة و3 آلاف يورو للأفلام القصيرة)، أو ليفتتح دورته بعمل أوّل لمخرجة من الأرجنتين هي لوتشيا سيدرون.
فيلم لوتشيا سيدرون متعدّد المستويات. لا تكتفي برواية قصة والدها، مخرج السينما المقتول في السبعينيات ضمن حملة التصفيات التي شنّها الحكم العسكري في الأرجنتين على معارضيه. بل إنّها عثرت، في باكورتها الروائية «حملُ الله»، على طرف خيط يربط قصتها الشخصية بقصة معارض آخر مقتول في الفترة نفسها. الشريط هو فيلم مشاعر رغم أنّه يتناول أحداثاً ساخنة من التاريخ القريب للديكتاتورية في الأرجنتين. لكنّ قاعدة المغامرة ليست صحيحة دائماً في برمجة المهرجان الذي أُسدل الستار عليه أمس. ومفاجأة الافتتاح لم تستمر... هكذا، خاب الجمهور من سذاجة الفيلم الماليزي «زهور في الجيب» التي لا يضاهيها سوى سذاجة «مع السلامة يا جميل» للمخرج الفلسطيني الأصل عمر الشرقاوي (إنتاج دانماركي). موضوع الفيلم في وقته: العرب المهاجرون إلى أوروبا، وكيف تنتقل عاداتهم إلى مجتمعاتهم المغلقة وسط المدن الكبيرة. والمدينة هنا هي كوبنهاغن، مسرح التراجيديا التي يعيشها شاب قويّ اسمه جميل. يستخدم المخرج اللقطات المقربة، وحركة الكاميرا السريعة، وتقنية أفلام الدعاية ضد العنف التي تبثّ على الفضائيات بسذاجتها واختزالاتها. وعندما تقع السينما في هذه الاختصارات، تقترب من البروباغندا المباشرة. وهذا ما وقع فيه «مع السلامة...» الذي غرق في خطابية الحوار والمشاهد وحتى شريط الصوت المصاحب. إذ اعتمد المخرج الموسيقى سهلة الإشارات، فاختار مثلاً أغنية أم كلثوم «ياللي كان يشجيك أنيني» التي تحكي مازوشيّة العاشق وسادية المعشوق، ليعبّر عن رغبة الانتقام من عصابات العنف. كما نكتشف أنّ خلفية حرب الانتقام تلك، هي صراع السنة والشيعة! فما دخل المصريين؟ أسئلة كثيرة طرحها المشاهدون العرب في روتردام، لكنّها أسئلة فوق الفيلم التائه في عتمة الخطابات المتناقضة. لكن ذلك لم يمنع الشرقاوي من الفوز بإحدى «جوائز النمر» للأفلام الروائية الطويلة عن «مع السلامة يا جميل»، إلى جانب «البلدة الجميلة» لأديتيا أسارات (تايوان)، و«وردة في الجيب» للو سانغ (ماليزيا).
ومن الأفلام اللافتة شريط الإيطالي أرمانو أولمي centochiodi الذي عُرض ضمن تظاهرة «الملوك والتحف». وهو يتناول فرار أستاذ فلسفة من المحاكمة بعد تثبيته النصوص المقدّسة بمسامير في أرضية المكتبة الكبرى. هكذا، طرح سؤاله: هل يحكمنا الله بهذه النصوص العمياء؟ سؤال متخيل لمشاهدين محاصرين بسينما فقيرة في خضمّ تحولاتها. وعلى رغم أن فيلم يوسف شاهين «هي فوضى» عرض ضمن التظاهرة نفسها، إلا أنّ المسافة كبيرة بين التجربتين، إلى حدّ يصعب تخيّله.