strong> علاء اليوسفي
من ذيول مخلّفات أحداث مار مخايل أنّها ما زالت تصرّ على طرح سؤال عن مدى الحاجة إلى ميثاق شرف إعلامي، يجمع المراسلين والصحافيين اللبنانيين العاملين في المحطات اللبنانية والعربية. فالأداء الإعلامي الذي بلغ حدّ الهذيان لدى بعض الوسائل، كان من الخطورة إلى حدٍّ بات علينا أن نترّقب الأحداث التالية بعين، وعيننا الثانية على إعلامنا الذي شذّ عن التجرّد والموضوعية، حتى صارت بعض تلك الوسائل أقرب إلى الإعلام الحربي الناطق باسم التيار الذي تمثّله.
ضياع، ومعلومات متضاربة، واختلاط الحقيقة بالشائعات، وتحليل عشوائي، واجتزاء للمشاهد، وتحميل المعلومات إيحاءات معينة... هذا بعض مما شهدناه ليلة الأحد الأسود، إذ باتت المحطات تستسهل بثّ أي شيء، حتى لو كان شتائم يكيلها طرف طائفي لطرف طائفي آخر، كما حدث على إحدى الشاشات المحلية، أو حتى تحليلاً مرتجلاً يدلي به أحد المراسلين، كما حدث على قناة أخرى خلال دهم الجيش لأحد المباني. وادعى المراسل وقتها أن الجيش يقتحم منطقة حزب الله (أي الضاحية) من دون تنسيق، وأن ذلك سيؤدي إلى تداعيات عدّة.
لكن أي ميثاق يمكن أن يجمع صحافيين متوزعي الميول والاتجاهات السياسية، إن لم نقل الولاءات؟ وهل يحتاج الصحافي إلى التزام التوقيع على ميثاق مكتوب لكي يتصرّف بمسؤولية؟ وما هي هذه المسؤولية؟ وهل نتحدث عن رقابة ذاتية؟ أوَليست الرقابة الذاتية نوعاً من حجب المعلومات، ومن الحذف؟ ثم ما الأَوْلى هنا: المهنية التي تتقيّد بنقل المعلومات بموضوعية وتجرّد، أم الانتماء الوطني والحرص على عدم إثارة النعرات الطائفية؟ وماذا لو تعارض الاثنان؟
بعض هذه الأسئلة حملتها حلقة أول من أمس من برنامج «أنت والحدث» على شاشة LBC، وجمعت فيها شدا عمر قرار وزراء الخارجية العرب بأن الإشادة الإعلامية بالإرهاب جريمة، ثم تعليق التلفزيون الكويتي كل برامجه الحوارية، وإيقاف قناة «الإخبارية» السعودية الاتصالات المباشرة في برامجها بعد اتصال من إحدى المواطنات انتقدت تصرف الحكومة تجاه غلاء الأسعار، وصولاً إلى الأحداث الدامية في مار مخايل، والهذيان الذي سيطر على بعض وسائل الإعلام... ووضعت جميع هذه الأحداث تحت عنوان رئيسي: «شاشاتنا بين تغطية الأزمات وأزمة التغطيات».
المفارقة أنه فيما لا تزال أهم مشكلات الإعلام العربي تقف عند حدود النقص في الحرية (تلفزيون الكويت و«الإخبارية» السعودية مثلاً)، فإن مشكلة الإعلام اللبناني تكمن في تخمة الحرية التي يتمتّع بها وضبابية الخطوط الحمراء. أين هي تلك الخطوط الحمراء؟ سؤال وجهته عمر إلى ضيوفها الصحافيين في الاستوديو: مدير مكتب «العربية» في بيروت عدنان غملوش، مراسلة «الجزيرة» سلام خضر، ومراسلة LBC منى صليبا. وكان معها من لندن الكاتب والإعلامي عادل مالك، ومن الرياض الكاتب والباحث سلطان البازعي، ومن الكويت أستاذ العلوم السياسية شفيق الغبرا.
لم تستطع عمر أن تبقي الحلقة في دائرة التشويق، بعيداً من الرتابة التي سيطرت على بعض أجزائها، وخصوصاً أنها حاذرت الدخول في تفاصيل ما حدث مساء الأحد الدامي. كما تجنّبت إعادة عرض التغطيات والنشرات الإخبارية التي بثّت يوم الحدث، ليبقى النقاش عمومياً وتنظيرياً، وإن ولّد أسئلة، يجدر التوقف عندها.
عدنان غملوش رأى أن بعض وسائل الإعلام عملت على تكبير أحداث مار مخايل، وأن «العربية» لم تشارك بعض المحطات اللبنانية في «هذيانها». واتفق مع زميلتيه خضر وصليبا على ضرورة وجود الرقابة الذاتية بسبب وضع لبنان الحساس والدقيق، وهو وضعٌ جعله يشعر خلال تغطياته الإخبارية أخيراً بأنه مهدد بالخطر.
«الرقابة الذاتية» التي دفعت صليبا إلى عدم بث ما رأته، من مصادرة الجيش لسلاح بيد أحد المتظاهرين وقول الحقيقة بشكل دبلوماسي، هي عبارة لم يستسغها الدكتور شفيق الغبرا، وطرح استبدالها بـ«المسؤولية». فالرقابة بالنسبة إليه هي عبارة عن حذف، في وقت يتجه فيه العالم إلى مزيد من التحرر، فلا تقدم من دون التطرق إلى المسائل الحساسة ومعالجة القضايا الحقيقية في الإعلام، والتهيب من الكلمة، كما لو أنها فعل. وفيما أعادت سلام خضر التذكير بأن التحرر الذي أشار إليه الغبرا في وسائل الإعلام العالمية هو «تحرر» يغيّب الضحايا، وخصوصاً ضحايا الاعتداء الإسرائيلي على لبنان، لافتةً إلى أن الموضوعية تقتضي عدم الاجتزاء، بقي سلطان البازعي يربط الحرية بالمسؤولية. ورأى أن الرقابة الذاتية تساوي المسؤولية في الحرية. كما أشار إلى حاجة الصحافيين السعوديين إلى التدريب، وصولاً إلى المهنية، «خصوصاً في التلفزيون والنقل المباشر»! من دون أن يشرح المقصود من التدريب على البثّ المباشر، وهل لذلك علاقة بالبث المباشر الذي لم يعد بعد الآن مباشراً في قناة «الإخبارية»، عندما انتقدت مواطنة علناً ما ينتقده كثير من الناس همساً؟