strong> حسين بن حمزة
•الشاعر الفرنكوفوني يدافع عن ثقافة التنوّع والانفتاح

أعاد القرّاء اكتشافه أخيراً، مع أنّه ينشر منذ السبعينيات، بعد صدور ترجمة «يوميات الحرب» عن «دار الساقي». في هذا الحوار يدعو بولاد إلى كسر العزلة المزدوجة التي يعانيها هو وأقرانه الفرنكوفون، عبر مزيد من التواصل مع شعراء اللغة العربيّة
أنطوان بولاد أحد أبرز الشعراء اللبنانيين الذين كتبوا قصائدهم بلغة موليير، وظلّوا مقيمين في لبنان. بل إنّه ـــــ بشهادة كثيرين ـــــ أهمّهم على الإطلاق. ورغم أن الإقامة في باريس والنشر فيها كان يمكن أن يحققا له حضوراً وشهرة أكبر، فإنه فضّل أن ينشر في لبنان.
نشر بولاد أول دواوينه عشية اندلاع الحرب الأهليّة، وكان بعنوان «أطالب بوزارة الداخلية» (1975) Je réclame le Ministère de l’Intérieur. درس الفلسفة في باريس وكان لإقامته هناك تأثير من نوع آخر على خياراته الشعرية.
وهو يقرّ بتأثير عدد من الشعراء الفرنسيين عليه، وفي طليعتهم رامبو وبروتون ثم إيلوار. كذلك يرى أن جورج شحادة أحد الذين تركوا بصماتهم على تجربته.
لماذا كتب بالفرنسية؟ يقول بولاد «القصة كانت أكبر مني. أنا أنتمي إلى عائلة كان لها ارتباط قوي باللغة الفرنسية. أذكر أنّ الباحث فرانسوا زبال اكتشف أنّ شخصاً من عائلة بولاد كان قنصلاً فرنسياً في الشام سنة 1870. درست في الـ«ليسيه». وكان طبيعياً أن أكتب بالفرنسية. حينذاك، وبالنسبة إلي خصوصاً، كان ثمة إشكالية في أن نكتب بلغة الانتداب، خصوصاً أني بدأت الكتابة عقب هزيمة حزيران 67. كنت أتساءل: لمن أكتب؟ ومن سيقرأني؟ إضافة إلى أنّي كنت منخرطاً في النضال مع مجموعات طلابية متمردة على القيم والتقاليد. أتذكر أنّي شاركت في تظاهرات لدعم تدريس الفرنسية لأبناء شرائح معينة. الذين يكتبون بالفرنسية اليوم لا يعرفون معاناتنا، فهذه اللغة باتت أمراً واقعاً، وجزءاً من النموذج الثقافي اللبناني. ولم تعد لها وظيفة سياسية».
لكنّ الشعر المكتوب بالفرنسية يعيش في معزل عن المشهد الشعري اللبناني عامة... ولا يكاد يُذكر لولا بعض المناسبات القليلة. ولعلّ بولاد نفسه أبرز مثال على تلك العزلة. فهو صاحب عشر مجموعات شعرية، ومع ذلك لا يعرف قراء العربية الكثير عنه. قد يقرأه بعض الفرنكوفون، لكنّه ليس حاضراً كفاية من قرّاء الضاد. بل إنه ليس حاضراً بالشكل الذي يستحقّه حتى بين الشعراء اللبنانيين بالعربية. هؤلاء لديهم منابر ومساحات واسعة، وهم موزّعون على تيارات وأجيال، ويمكن متابعة تجاربهم ومعاينة إنجازاتهم بسهولة. تُرى، هل يختار الشاعر أن يكون مهمشاً أو معزولاً حين يكتب بالفرنسية؟ يقول بولاد: «بحسب تجربتي، العزلة حاصلة بالتأكيد، وهذا ليس هيّناً على أي شاعر. لكنّ ما يعزيني هو إيماني بالكتابة نفسها. الشعراء، بأي لغة كتبوا، هم كائنات مرشّحة للعزلة. حتى الشعراء ذوو الشهرة والجمهور الواسع لديهم عزلاتهم. أن تكتب شعراً، فهذا يعني أنك تختار عزلةً ما، سواء فعلت ذلك بالفرنسية أو العربية أو بأي لغة أخرى. قرّاء الشعر هم أقلية دوماً. أتذكر ما قاله أدونيس ذات مرة: الجماهير لن تقرأ لك سواء كتبت بالفرنسية أو العربية».
هكذا تُعْزَل التجارب اللبنانية المكتوبة بلغة موليير ضمن تصور إجمالي ونطمي، لا يلحظ الفروق والتدرجات الطفيفة بينها. شعراء الفرنسية يؤخذون بالجملة، ولا وقت لالتقاط التمايزات الفردية بين صوت وآخر. ما يكتبه هؤلاء شبه مجهول لدى قراء العربية، وهو ما يزيدُ من عزلتهم. يجيب: «للأسف، هذا صحيح. حين يجري الحديث عن الشعر اللبناني فهو لا يشملنا عادة. اللغة الأجنبية تعزلنا في البداية، ويتكفّل الإهمال الذي نتعرض له بالعزلة الثانية. أظن أن في هذا إهمالاً لخصوصية لبنان وثقافته. أنا لا أتصوّر شاعراً لبنانياً يكتب بالعربية، لم يتسرّب إليه شيء من جورج شحادة. لماذا لا يؤدي هذا إلى تواصل بيننا وبين من يكتبون بالعربية. أظن أن القسم الأكبر من المسؤولية يقع عليهم. الشعر اللبناني، والأدب اللبناني عموماً، يقوم على التنوع والانفتاح».
لقد ظهر ذلك التمييز حتى في انتقاء الأسماء التي شاركت في تظاهرة Les Belles Etrangères في فرنسا أخيراً: «كانت لدي ملاحظات كثيرة على التظاهرة وكيفية اختيار الأسماء. لقد ظُلم الشعر فيها. لكن من الواضح أن التظاهرة كانت مناسبة لممارسة عزل إضافي بحق من يكتبون بالفرنسية ويقيمون في لبنان. صحيح أنهم برّروا اختياراتهم بعدد من الشروط، إلا أنّ «التوازن» الذي توصلوا إليه كان على حساب مَن يكتبون بالفرنسية».
هل الهجرة إلى فرنسا هي الطريق لتحقيق حضور أكبر وشهرة أوسع؟ «سؤال وجيه! أظن أن شريف مجدلاني هو الوحيد الذي كسر هذه القاعدة، إذ اخترق دار نشر باريسية كبيرة (Le Seuil). لكنّ هل هذا يعني أن النشر في باريس شرط للحصول على صدى أكبر في بيروت؟ هل على كتّاب لبنان الفرنكوفون أن يصلوا إلى القارئ اللبناني على صهوة فرنسية؟». لماذا لم تحذُ حذو مجدلاني، نسأله؟ «أنجزت أخيراً ديواناً هو عبارة عن قصيدة طويلة مؤلفة من مقاطع قصيرة. أتساءل تحت ضغط سؤالك: هل أرسله إلى ناشر فرنسي؟ أم أنشره هنا كما فعلت دوماً؟ حتّى الآن لم أعِش الاختبار الباريسي، وأحسب أن هذا يميزني. أنا أعيش هنا. ورغم كل شيء، أحب أن أعزّز دور بيروت».
في عام 2004، أصدرت «دار الساقي» ديواناً صغيراً لبولاد بعنوان «عابر النهر» (تعريب وتقديم رجاء نعمة). وفي نهاية العام الماضي صدر له عن الدار نفسها كتابان: الأوّل بالفرنسيّة يستعيد سيرة الطفولة وعنوانه «طريق الشام» Rue de Damas، والثاني «يوميات الحرب» كناية عن طبعة مزدوجة تتضمّن النصوص بلغتها الأصليّة، توازيها ترجمة عربيّة بتوقيع رجاء نعمة. هل أسهم ذلك في تخفيف إحساسه بالعزلة في وطنه، وفي تجسير الهوة التي تفصل بين شعراء العربية وشعراء الفرنسية؟ هل كان لنصوصه الاستقبال الذي يستحق؟ يقول عن كتابيه الأخيرين: «إنهما يمثلان شيئاً مختلفاً عما أكتبه. لا أرى «يوميات الحرب» شعراً، رغم نفسه الشعري الداخلي. الشعر ليس مادته. الشعر لا يعطي سوى من لحمه. من الكلمات فقط. «طريق الشام» وصل إلى عدد أكبر من الناس. كان مفاجأة لي أنّهم أحبّوه، لكنه آلمني أيضاً. الكتاب نثري وليس شعراً. كان ذلك يعني أنّهم لا يتواصلون بالقدر نفسه مع الشعر. بالنسبة إلي، أنا أرى نفسي مواطناً في بلد الشعر. أنا ساكن فيه. البعض لديه جمهور واسع، وأنا لديّ قرّاء قليلون. الشعر جعلني ألمس جوهر العالم وأسئلته. وهذا ليس قليلاً على ما أظن... أليس كذلك؟».