نوال العلي
في «طريق الشام» (دار الساقي)، يقوم أنطوان بولاد (1951) برحلة عبر الزمن، مستعيداً طفولته التي امتدّت على رقعة 950 متراً هي طول الطريق الفاصلة بين المتحف والسوديكو. هنا عاشت عائلة بولاد السورية الأصل، في الخمسينيات والستينيات، ومن هنا تنبعث الذكريات التي جمعت سكّان الحي بالمكان وجمعته هو وأسرته بهم. لم تكن طفولة بولاد حافلة بالأحداث، بل جاءت مثل كتابته بسيطة وهادئة... قد تكون الكتابة وسيلة لاستعادة الفردوس المفقود، بلغة لا تغالي في شعريتها ولا في نثريّتها.
يختبر الشاعر ذكرياته بين دكاكين المنطقة وسكانها، ويكتب حياته من خلال الآخرين: الصيدلي الذي أنقذ حياته من حادث سير، المحسن العجوز، الحلاق، الخياط، المتحرش بالصغار، ذكريات الزلزال الذي ضرب بيروت عام 1956. حتى طريق الترام تبدو من أبطال تلك السيرة المحاكة على نحو مضغوط ومكثّف، مثل فيلم قصير ممنتج جيداً يتناول المشهد باقتضاب. واللافت أنّ شخصيات الأب والأم والأخت، وأفراد العائلة بالمعنى الأوسع، ليست أساسية في السيرة، بقدر أهميّة سكّان الحي وأحداث أثرت عليه.
يتوقف بولاد في هذه الرحلة القصيرة، عند شرفة منزل العائلة القريب من المقابر، ويتذكّر الجنازات التي مرت من هناك، جنازة الرئيس بشارة الخوري، ومأتم والده، رغم أنه لم يكن تجاوز الخامسة آنذاك. وفي فصل بعنوان «مجد أبي» يتذكّر ابتسامته ورصانته التي فقدها حين همّ ليركض، تحت نظر الصغير، خلف قبعته التي طيرّتها الريح. وبولاد يبدو في هذه الذكريات الضعيفة... كأنّه يحاول الإمساك بقبعة الماضي البعيد أيضاً.
يتذكّر بولاد الكثير من التفاصيل في هذه السيرة المختصرة للطفولة، بل ومن الواضح أنّها تركت أثراً عميقاً فيه. حتى إنه يستعيد أموراً صغيرة مثل لعبة مع أبناء الحي الفقير. إذ لم تمنعه والدته من اللعب مع أبناء العائلات المحتاجة، حتى إنّ رجلاً مسنّاً سيناوله خمسة قروش ليشتري الحلوى لنفسه، رغم أنّه قد يكون أفضل أقرانه حالاً. تلك اللحظة يفكّر بولاد: «أكتب لكي أسدّد ديوني».
يبدو بولاد طفلاً يختفي خلف قناع الكاتب، تنتابه رغبة قوية في اللعب على الطريق بين مقبرة الطائفة الإنجيلية وطائفة السريان الكاثوليك، حيث سكنت عائلات سريانية فقيرة في بيوت بائسة مع مجموعة من البنايات الحديثة الوردية اللون. يظهر الكاتب ليقدّم وصفاً لم يصل إلى الطبقات العميقة من التفاصيل، ولم يجعل من الطفل بطلاً وحيداً لها: إنّها معاينة بالأسود والأبيض وبعيون بريئة لطريق الشام.