بيار أبي صعب
كاتب يقف على حدة فوق خريطة الأدب المغاربي، بإطلالته الأليفة، وضحكة متواطئة تجمع طيبة المحبّ ومكر العارف. ما همّ إن كانت السنوات الطويلة التي صرفها بين السياسة والأدب قد أحنت قامته قليلاً؟ فالشاب التسعيني الذي يستضيفه الشاعر ياسين عدنان الليلة على التلفزيون المغربي، هو ــــ أكثر من أي وقت مضى ــــ تجسيد حيّ لميراث متعدد المناهل والآفاق، يذكّرنا أن الحضارة العربيّة ــــ الإسلاميّة أساسها التعدديّة والتنوّع والانفتاح...
إنّه الأديب المغربي الكبير إدمون عمران المليح. لم تقرع له الطبول في باريس حيث عاش طويلاً. ولا شرّعت له دورالنشر أبوابها... لم تروّج أبواق الإعلام لاسمه، كما فعلت مع آخرين. فهذا اليهودي المضيء لا يمتلك مواصفات الرواج السهل: لا أدبه يحتوي كليشيهات إيكزوتيكيّة، ولا خطابه «لائق سياسياً» كي ينسجم مع المزاج العام المهيمن، ويرضي نخبة تريد أن تشتري عفّتها وراحة ضميرها بأبخس الأثمان.
«الحاج» إدمون، كما يلقبه أصدقاؤه، مزعج بامتياز، وصوته العذب يبدو ناشذاً في الكرنفال. فهو اليهودي الذي أمضى حياته في فضح المشروع الصهيوني. كتب بالفرنسيّة، فإذا بالعاميّة المغربيّة تقتحم لغته ونصوصه... تلك التي كان يصلّي بها أهله وأبناء طائفته في الزمن السعيد.
ولد المليح في آسفي عام ١٩١٧، في عائلة جذورها في الصويرة، جنوبي المغرب. وتلك المدينة التي عاش فيها اليهود، حاضرة بكثافة في كتاباته. أما مغامرة الكتابة، فلم يرتمِ في أحضانها إلا متأخّراً. في الثالثة والستين أصدر روايته الأولى «المجرى الثابت» Le Parcours Immobile بالفرنسيّة عن «دار ماسبيرو» في باريس (١٩٨٠). قبل ذلك كان قد كرّس عمره للعمل السياسي، والنضال ضدّ الاستعمار. في الخمسينات وصل إلى قيادة الحزب الشيوعي المغربي، ثم أخذ مسافة عن الحزب بعد استقلال بلاده (١٩٥٦)، معيباً عليه دوغائيّة حالت طويلاً دون استيعاب خصوصيّة المجتمع المغربي.
هكذا هاجر إلى فرنسا، حيث أصدر سيرته الذاتيّة التي اعتبرها النقد محطّة مهمّة في مسار الأدب المغاربي. كان المليح أوّل رمز سياسي يساري يكسر المحظور، ويتكلّم بلغة نقديّة متحرّرة. لقد تجاوز في «المجرى الثابت» قواعد الأدب «الملتزم» السائد آنذاك، متعاطياً مع الواقع بفانتازيا إبداعيّة يغلب عليها الهمّ الجمالي والمشاغل اللغويّة، وتترك للقارئ أن يكون شريكاً في إعادة تشكيل فضاءاته وشخصياته وطقوسه.
كتب ضد النسيان، ومن خارج اليقين الايديولوجي، فكانت رواياته الثلاث الأخرى: «أيلان أو ليل الحكي»، «ألف عام بيوم واحد»، «عودة أبو الحاكي» التي جعلت من صاحبها أحد أبرز رموز الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية. ولا بدّ أن نضيف إليها مجموعة قصصيّة متأخرة بعنوان «آبنر أبو النور»... وكتابات نقديّة عدة في الفنّ التشكيلي، أبرزها مؤلف مرجعي عن الرائد أحمد الشرقاوي (مع عبد الكبير الخطيبي وتوني ماريني)... وكتاب يحاور فيه نصّ جان جينيه «الأسير العاشق».
خلال سنواته الفرنسيّة لم ينقطع إدمون عمران المليح عن المغرب، بل واكب تحوّلاتها السياسيّة والاجتماعيّة، وبقي على تواصل مع الأجيال الجديدة، ناقلاً اليها تجربة غنيّة قائمة على الجرأة والتجريب وطرح الأسئلة. ثم عاد ليستقرّ نهائيّاً في بلاده أواخر التسعينات... إطلالته الليلة في ضيافة الزميل ياسين عدنان (برنامج «مشارف»)، مناسبة لاستعادة مسيرة هذا الكاتب، وتصوراته الشجاعة لإشكالات الهوية واللغة والثقافة والقيم في مغرب اليوم. إنّه موعد نادر مع «الأخ الأكبر الذي يجدّد ذاكرتنا ويخصبها، من خلال نصوصه الجميلة وحضوره الأجمل»، كما كتب عنه الروائي والناقد محمد برادة حين كان في الثمانين.
«مشارف»، العاشرة والنصف ليلاً على القناة الأولى للتفزيون المغربي ــــــ يعاد بثّ الحلقة على فضائيّة «المغربيّة»، بعد ظهر الاثنين (الثانية و٢٠ دقيقة)، ثم مساء الثلاثاء (الخامسة والربع). كلّ المواعيد بتوقيت غرينتش.