strong>بيار أبي صعب
• الحلم الأوسترالي أجهض فـي قاعة الترانزيت

بعد غياب خمس سنوات تعود الفنانة اللبنانيّة في معرض مسكون بهاجس السفر والرحيل. تغيّر الديكور والملامح والألوان في لوحة ريم الجندي الجديدة التي تغرف من فن الأيقونة، لكنّها بقيت تنطوي على النظرة السوداويّة نفسها إلى العالم. الافتتاح الليلة في «غاليري جانين ربيز» ــ بيروت

على باب غاليري «جانين ربيز» في بيروت، حيث يفتتح معرضها الجديد هذا المساء، ينبغي تعليق التحذير الآتي: «انتبه أنت تدخل منطقة محظورة». ذلك أن ريم الجندي (١٩٦٥)، مع كل معرض جديد، تقحمنا أكثر فأكثر في حياتها الخاصة. لا ننتبه إلى أنفسنا إلا وقد انزلقنا إلى منطقة حميمة، مضطربة، تختصر علاقة هذه الفنانة بالعالم الخارجي، بالحياة والموت والحب والشهوة والحرب. بالطمأنينة المفقودة، وهاجس الرحيل...
منطقة محظورة ندخلها متلصصين، وشهود زور على عذاب طويل بلا اسم. ريم ترسم حياتها وهواجسها، تستعيد المَشاهد والحالات بتكرار يصل حدّ الهوس. كأنّها تقول على الدوام القصّة ذاتها. في كلّ مرّة تأخذنا إلى عوالم بصريّة مختلفة، ومناهل فنيّة جديدة... تغيّر ملامح بطلتها وسائر الشخصيات، وكذلك الديكور والألوان والعناصر الفنيّة، الإطار المكاني إذا شئنا أو مسرح الأزمة... فإذا بنا نقف، في نهاية المطاف، على شفا الهاوية القديمة نفسها. الجسد يضيق بصاحبته، المدينة تفلت من عاشقتها. الجراح تعرّش في الوجدان، السنوات تمرّ مخلّفةً وراءها صوراً وأكسسوارات ورغبات قليلة باقية. الكنبة التي تجلس عليها «البطلة»، ما زالت هنا وإن بأشكال ومظاهر أخرى، المرأة المصلوبة أيضاً. الرجل والمرأة في موقف انفصال أو فراق أو حيرة أو عدم تواصل... أو في حالة لقاء عابر، أخرس. وذلك الوجع الذي يعشش في مكان ما من الروح، ذلك العجز عن تجاوز الحصار الميتافيزيقي والوجودي (والسياسي) إلى الأفق الأوسع. هذا ما ترسمه ريم الجندي، على الأقلّ منذ معرضها «مواعيد زيارة بينيلوب» (٢٠٠١).
عنوان المعرض الجديد الذي تستضيفه «غاليري جانين ربيز» (الروشة) حتى ٢٣ شباط (فبراير)، بسيط حدّ السذاجة: «طريق المطار». فيه ترسم الفنانة اللبنانيّة الشابة محاولات هروبها الفاشلة. حلم السفر كان قد بدأ يتجلّى في معرضها السابق «أشياء بسيطة» (٢٠٠٣)، لكنّه هنا تحوّل إلى موضوع محوري: قصّة إحباط وفشل، حلم مجهض. كانت تخطط للرحيل إلى أوستراليا، لكن مشروعها وصل إلى الطريق المسدود، ولم يبق منه إلا هذا المعرض. مجموعة لوحات وحكايات، من وحي الهجرة المتخيّلة، والعالم الصعب المنال. لذلك فإن المرأة التي ترسمها في معظم اللوحات ـــــ هل ترسم إلا نفسها في نهاية المطاف؟ ـــــ صارت هنا داكنة البشرة، عارية الصدر، مثل نساء الأبوريجين في أرض الأسطورة البعيدة. نظرتها ما زالت تنضح باللوعة القديمة نفسها. عارية الصدر أو عارية تماماً، حتى وهي تنزل من الطائرات تجرّ حقيبتها، أو تنتظر في المطارات وصالات الترانزيت إلى جانب الحقيبة نفسها. عارية وقد نبت لها جناحان، صارت المرأة المجنّحة.
المرأة المجنّحة؟ كنا لنستعيد قصّة إيزومي كيوكا الغرائبيّة بالعنوان نفسه، لكن بطلة ريم أبعد ما تكون عن «المنقذة» في القصة اليابانيّة. ولعلّها نقيض المرأة المجنّحة في الأسطورة الإغريقيّة، حيث ترمز إلى Athéna Niké ربّة النصر. المرأة المجنّحة هنا، هي الشاهدة على كل الهزائم، جناحاها هما تجسيد لأحلامها المجهضة، وربما لإصرارها على المحاولة مجدداً. نراها واقفة في لوحة بعنوان «أسباب للرحيل» وخلفها كُتبت في مستطيلات زاهية اللون أسماء الطوائف اللبنانيّة. لكن اللوحة المشار إليها ربّما هي الإحالة السياسية المباشرة الوحيدة في المعرض (إضافة إلى شارة تمثّل سمير قصير على صدر المرأة المسافرة في لوحة «شارة في القلب»).
في بهو المطار جلست المرأة الذهبيّة المجنّحة نفسها قرب الحقيبة، تنتظر رحلتها (لوحة «هجرة» التي فجّرت مشروع المعرض توضح ريم). فيما الخلفيّة هائجة ومقلقة: طائرة بألوان قاتمة بين لطخات أحمر صارخ وأبيض نوراني تبعثرت فوقه مربعات صفراء عليها الإشارات والتعليمات التي تطالعنا خلال السفر. هناك لقطات مقرّبة، أو قريبة جداً، لرجال يحملون حقائبهم... لكنّنا لا نراهم. لا نرى وجوههم. في لوحة «شارع الحمراء»، نرى اليد والحقيبة والخريطة المؤسلبة التي «تصوّر الشارع وقد فرغ من حاناته الأثيرة ـــــ تشرح ريم ـــــ شيه أندريه، الويمبي، المودكا»... لم يبق شيء لنا هنا إذاً! لقطة أخرى ترينا الجزء السفلي من المرأة المجنّحة في قاعة «ترانزيت» (اسم اللوحة)، ساق على الساق، والحقيبة وطرف الجناح الهادل، وفي مواجهتها رجل مسافر نخاله صامتاً: نرى خصره، سروال بذلته، الحذاء والشنطة. في «اختفاء»، الشاب الجالس على حقيبته يذوب في خلفيّة اللوحة، يتماهى معها. بعض الرجال/ الكومبارس في مشهد آخر، يبدو حضورهم «مشطوباً»: مجرّد خطوط حجبتهم لتبقى الشخصيّة الرئيسيّة.
تمضي ريم الجندي في تقطيع الفضاء على الطريقة نفسها. وتواصل لعبة الموتيفات التي تملأ الخلفيّة بمناخات وحالات شعوريّة غامضة. في لوحات معرضها الماضي، كانت الموتيفات تمثل كلاباً وأقنعة وأجساداً، وقبله في معرض «بينيلوب» الذي روى تجربتها مع المرض، كانت الفاكهة تحتل خلفية اللوحة. أما هنا، فلا مكان إلا للحقائب والطائرات... والكلمات التي تصنع دوائر في لوحة «زوجتي أجمل واحدة، قال». لكننا نذهب أيضاً إلى نقشات أكثر تجريداً: مستطيلات من كل الألوان، خطوط وأشكال هندسيّة ومنمنمات مرسومة بصبر ودقّة وعناية. إنّه تأثير فنّ الأيقونة، يبدو جلياً على أعمالها الجديدة. أيقونات قبطيّة من الزمن السحيق في إثيوبيا ومصر، آثار «دورو أوروبوس» في سوريا... رحلة الدراسة والبحث الطويلة التي قامت بها الفنانة في عالم الأيقونة الشرقيّة، قادتها، كما تشرح لنا، إلى اكتشاف تقاطع الأديان وتكاملها في الفنون القديمة التي أنتجت مخيلتنا. هكذا انتبهت إلى أن ذلك التراث العريق يتحكّم بتقنيات التصوير المختزنة في لاوعينا.
هذه الرحلة تركت بصماتها بوضوح على لوحات المرحلة الجديدة (٢٠٠٣ ـــــ ٢٠٠٧)، حيث نلمس ديناميّة مدهشة في استيعاب ذاك الميراث وتوظيفه. من هنا استقت ملامح بطلتها ذات السحنة الداكنة. ومن تلك التجربة تعلمت استعمال وريقات الذهب في الموتيفات والوجوه. واستوحت التعارض أو الكونتراست بين ألوان ترابيّة داكنة وأخرى نورانيّة أو معدنيّة بالفضّة والذهب. «علمني أسلاف خفيّون أن أبدأ من جسم ترابي داكن، لأصل إلى روح مضاءة بالأبيض»، تكتب في تقديمها للمعرض. بل إن هناك استشهاداً مباشراً بفنّ الأيقونة، إذ ترسم ريم الجندي القديس جبرائيل قائد جند الملائكة بسيفه وترسه، فوق خريطة رأس بيروت، يقف تماماً حيث تسكن الفنانة!
الحلم الأوسترالي مرّ من هنا، واللوحات تغصّ بالطائرات والحقائب، باستمارات طلب الهجرة والخرائط وجواز السفر... ترسم ريم الجندي بالأكريليك ووريقات الذهب وتقنيات مختلفة، تستعمل التراب والشاش والحبال التي تجبلها في اللوحة. تقول بأسلوب يلامس «الواقعية القصوى» hyperrealism أحياناً، حالة الاختناق، أو الحريّة المستحيلة، والسعادة المؤجلة. الآن تخطط ريم للهجرة إلى كندا، وقد بدأنا نتساءل كيف سيكون معرضها المقبل بعد سنتين أو ثلاث؟

غاليري جانين ربيز (الروشة) ــ حتى ٢٣ شباط (فبراير) الحالي ــــ 01،868290
www.galeriejaninerubeiz.com