بيسان طي
عامل الموضة هو السبب الرئيس والأول الذي يجعل عشرات الملايين يشتركون في ما اصطلح على تسميته «الشبكات الاجتماعية الإلكترونية»، ورغم أن عالم الإنترنت يشكل منذ أكثر من عقد جزءاً مهماً من حياتنا اليومية، فإن الباحثين في ميادين متنوعة لا يملّون دراسة جوانب مختلفة من الظواهر والعلاقات والسلوكيات التي تنتج عن استخدامه.
مجلة «بسيكولوجي» الفرنسية خصصت ملفاً كاملاً لمفهوم «الصداقة» الجديد كما بات يُحدد من خلال مواقع الإنترنت، كما طرحت صحيفة «لوفيغارو» السؤال عن الحب عبر الشبكة الافتراضية ليجيب عنه أريك إيمانيول شميت وسيرج تيسون.
عام 2007 كان سنة «فايس بوك» كما سُجّل حضور متميز لماي سبايس و secon life، ومن الصفات التي باتت تطلق على المشتركين على هذه المواقع هي «أنهم أبناء العصر»(!).
وبعيداً عن قضية الموضة، يكشف الإبحار عبر الشبكات الاجتماعية حنيناً إلى الماضي. إذ يكثر بين المشتركين البحث عن الأصدقاء القدامى، فيما تبرز في المقابل رغبة بالبحث عن أصدقاء جدد، وكأن الأصدقاء الذين نعرفهم في الواقع ونلتقيهم في الحاضر لا أهمية كبيرة لهم إلا إذا «لاقونا» في أحد المواقع. لحظة الحاضر معلقة بين حنين إلى الماضي ورغبة في بناء صداقات للمستقبل.
«شبكة الإنترنت أوجدت حلاً لمرض العصر أي الشعور بالوحدة، وهو شعور يتنامى بين أبناء المدن وأبناء الريف». هذه الجملة ترددت تكراراً على ألسنة من استطلعتهم مجلة «بسيكولوجي» في بحثها عن أسباب التعلق بالشبكة الافتراضية، وأضاف بعض المستطلعين أنهم من خلال «فايس بوك» وأخواتها يقولون «أنا مشترك في شبكة اجتماعية افتراضية ... إذاً أنا موجود».
يسمح الإبحار في هذه الشبكة بالاستسلام للهو واللعب، وهذا ما يشكل أحد عوامل نجاحها، ومن خلالها نعيد خلق شخصياتها، نرسم لأنفسنا شخصيات ووجوهاً نحلم بها، نقدم أنفسنا كما يحلو لنا، فنحن لسنا في مواجهة واقعية مع آخر، تفصلنا شاشات ومسافات قد تطول أو تقصر، لكنها بالحسابات الافتراضية لا تزيد على بضعة سنتيمترات، فثمة شعور زائف لدى المبحر في الشبكة بأنه قريب جداً من محدثه رغم إدراكه لـ«قواعد اللعبة» التي تفرض ما يشبه «جداراً عازلاً» بين «الأصدقاء». إلا أن القدرة على «التخفي» أو إدراك بأن عيون الآخر لا تحاصرنا يزيد من حريتنا ومن قدرتنا على اللعب وربما تخيل أنفسنا. ومن المفاهيم التي تروّج لها الشركات شعار «تزداد قيمتك بزيادة عدد أصدقائك الافتراضيين»، وبأن الصداقة يمكن أن تتم بـ«غمضة عين»، وبكبسة زر يصير للمرء عشرات الأصدقاء، وهي مفاهيم تناقض كل ما يعرف عن الصداقة في العالم الواقعي. وأبرز وصف لهذه العلاقة ما جاء في كتب باسال دولوماس، مذكراً بأن علاقة الصداقة تتطلب وقتاً طويلاً حتى تمتد وتتعمق، وبأنها تتطلب تنازلات متبادلة من أطرافها، وبأن يقبل الصديق باختلافات صديقه عنه وأن يتبادلا الثقة.
الفخ الآخر الذي تنصبه الشبكات لمشتركيها يتعلق بوهم «المساواة» مع نجومهم أو رموزهم. فحين تعلن المغنية الأميركية مادونا أن لها مجموعة من 5400 صديق على «فايس بوك» فإنها بذلك تتحايل على «أصدقائها» هؤلاء لأنهم في حقيقة الأمر ليسوا سوى معجبين بها وبفنها ولا تربطها بهم أية علاقات. وقد لا تكون هي من يتواصل معهم، بل مندوب عنها أو أحد الموظفين لديها، لكنها بإعلانها هذا تفعل ما يفعله آلاف النجوم في الفن والسياسة.
أنا ما أريد أن أكونه، على صفحات الشبكة الإلكترونية بات الآلاف يحققون أو يرسمون «أحلام اليقظة» التي تراودهم، وفي غرف المحادثات بشكل خاص يلعبون أدواراً متنوعة، ينزعون عن أنفسهم أسماءهم ويتبنّون ألقاباً تُعرّف بهم ويتحررون من كل ضوابط الرقابة الذاتية وعمليات القمع التي تمارسها الأسرة أو المدرسة أو الجيران أو زملاء العمل. وكما تُبنى «الصداقات» في العالم الافتراضي سريعاً فإنها تنتهي بكبسة زر، يكفي أن يقرر المرء أن ينسحب، ويقفل جهاز الكمبيوتر ليدخل «عتمة النسيان»، سيسأل عنها أعضاء مجموعته لبعض الوقت ثم ينسون أنه «وُجد» بينهم وفق ما قال الباحث الفرنسي مايكل ستورا.
وماذا عن الحب؟ يجيب تيسون «اللقاءات الافتراضية المكثفة تسبق اللقاء الحقيقي، وفي معظم الأحيان تحل الخيبة مكان الإعجاب لأننا نعتقد أننا نعرف أموراً كثيرة عن الآخر فنكتشف أننا في حقيقة الأمر لا نعرفه جيداً.
أما التحوّل الكبير الذي يتوقف عنده تيسون فإنه قد تم على مستوى الرغبة بملامسة الآخر، قال «كانت عملية الإغراء ترمي في نهاية الأمر إلى إقامة علاقة جسدية مع الشخص الذي نُعجب به، «ونأمل بأن نصل إلى هدفنا سريعاً، ولكن الأمر تبدّل عبر الإنترنت فقد صار الهدف من عملية الغواية أن نتمكن من إطالة أمد التحادث عبر الإنترنت، واللقاء بهذا الآخر عبر الشبكة للتكلم معه فقط».