برلين ــ محمّد رضا
•رولينغ ستونز، وباتي سميث، وHeavy Metal في بغداد

لعلّه الأكثر تمايزاً، بمراهناته الجريئة ونتائجه المفاجئة، بين المهرجانات الكبرى التي يدشّنها سنويّاً. هذا العام يحتفي بالسينما التسجيليّة، بدءاً بفيلم مارتن سكورسيزي في الافتتاح. على برنامجه ٤٠٠ فيلم، 26 منها تتنافس على دببة «برلين» الثلاثة. وتحضر إسرائيل بقوّة في الدورة ٥٨، أما السينما العربيّة...

الجمهور الألماني كان يرقص ليلة الافتتاح، ولم يكن السبب الدورة 58 من «مهرجان برلين السينمائي الدولي» (Berlinale)، ولا كون الممثلة سكارلت جوهانسُن أعلنت أنّها أختارت عريساً ألمانياً... بل لأن فريق الـ«رولينغ ستونز» كان يعزف ويغنّي تلك الليلة في المدينة، تماماً كما كان يفعل في منتصف الستّينيات.
الفرقة الشهيرة افتتحت في 5 من الشهر الجاري الدورة الجديدة من المهرجان العتيد عبر عرض شريط وثائقي جديد للمخرج الأميركي مارتن سكورسيزي، بعنوان Shine A Light، يصوّر حفلة أقامتها الفرقة منذ عامين في نيويورك. في هذا الفيلم، لم يقدّم سكورسيزي مجرّد تسجيل لحفلة غنائية على شريط سينمائي، بل كان يوثّق لحالة فنية ومزاج شعبي ولجمهور يستعيد ـــــ ولو لحفلة عابرة ـــــ شبابه البعيد.
سبق أن أخرجَ سكورسيزي عدداً من الأفلام الوثائقية عن الروك والبلوز، وقد كشف في برلين أنّه يعمل على إنجاز فيلم موسيقي آخر يتناول ملك الريغي بوب مارلي. أما اختيار شريط مارتن سكورسيزي لافتتاح الدورة 58 من «مهرجان برلين» (يستمرّ حتى 17 شباط/ فبراير)، فيعكس الاهتمام المتصاعد الذي تبديه المهرجانات الدولية الكبرى بالسينما التسجيلية والوثائقية... وعلى رأس تلك المهرجانات «برلين» الذي قرّر لأول مرة في تاريخه اختيار شريط وثائقي لافتتاح دورته. كذلك، المهرجان يحتفي هذا العام بالموسيقى التي تمثّل أحد محاور البرمجة، معبر مجموعة كبيرة من الأفلام بينها شريط المغنّية مادونا «قذارة وحكمة» الذي يُعرض ضمن قسم «بانوراما». ويحفل البرنامج بأفلام وثائقية عن عالم الروك، مثل شريط «باتي سميث: حلم حياة» للمخرج ستيفن سيبرينغ الذي يتناول حياة موسيقية الروك الأميركية الشهيرة باتي سميث.
في الواقع، منذ اختيار لجنة تحكيم مهرجان «كان» عام 2004 فيلم مايكل مور «فهرنهايت ١١/٩» ليكون الفائز بالسعفة الذهبية، انطلقت ظاهرة تعزيز علاقة المهرجانات بالسينما التسجيلية. هذه «العدوى» انتقلت سريعاً إلى المهرجانات الأخرى، حتّى إنّ «برلين»هذا العام يعرض فيلمين تسجيليين في مسابقته الرسمية (وعشرات في أقسامه المختلفة)، بينها فيلم سكورسيزي. أما الفيلم الثاني فهو «إجراء روتيني» ويأتي ضمن الاهتمام الكبير الذي توليه السينما الأميركية بالحرب العراقية. الفيلم يدور حول فضيحة سجن أبو غريب، والصور التي التُقطت لتعذيب السجناء العراقيين على أيدي جنود أميركيين. صحيح أنّ تلك الفضيحة لم تضع حدّاً للحرب، لكنها مثّلت مناسبة لمراجعتها كما يقول مخرج الشريط إرول موريس. وإذا كانت الموسيقى تجمع الشعوب، فالسياسة تخترقها طولاً وعرضاً. وشغلة إيرول موريس هي ـــــ تحديداً ـــــ نبش العالم تسجيلياً، وطرح الأسئلة الصعبة. فقبل عامين، قدّم فيلمه «ضباب الحرب» عن الظروف التي أدّت إلى حرب فييتنام، والانهيار الذي عانته أميركا نتيجة هزيمتها هناك.
وفي برلين شريط وثائقي آخر عن العراق، يُعرض خارج المسابقة، هو «موسيقى صاخبة في بغداد» (أو «Heavy Metal في بغداد») لإدي موريتي وسوروش ألفي. يتناول الشريط قصّة خمسة شبان عراقيين، يعزفون في إطار فرقة موسيقية متخصّصة بالـ Heavy Metal. ومع اجتياح بغداد، والظواهر الأصوليّة التي أفرزها الاحتلال الأميركي، يتلقّون تهديدات بالقتل بسبب هذه الموسيقى الغربية، فيرحلون إلى تركيا. وإذ فوجئ مدير المهرجان ديتر كوسليك بانسحاب عضوين من لجنة التحكيم، هما الممثلة الفرنسية ساندرين بونير والمخرجة الدنماركية سوزان باير، لأسباب «شخصية»، فإنّ الأمر لن يؤثر ـــــ كما أكّد ـــــ على أعمال لجنة التحكيم التي يرأسها المخرج الفرنسي غوستا غافراس، صاحب فيلم Z الشهير، وتضمّ خمسة أعضاء بينهم الأميركي وولتر مورخ والممثلة الألمانية ديان كروغر. ينكبّ هؤلاء على مشاهدة 26 فيلماً من العالم أجمع ( 18 منها في أوّل عرض عالمي) تتنافس على جوائز الدبّ الذهبي والفضّي والبرونزي.
وإذا كان مهرجان «كان» يستحوذ على اهتمام المخرجين والمنتجين، فإنّ «برلين» الذي بات من المواعيد السينمائية المنتظرة كل عام، قد سجّل رقماً قياسياً في عدد الأفلام التي تقدّمت له: 5000 شريط اختير منها 400 تشارك هذا العام ضمن أقسامه المختلفة، أي المسابقة الرسمية، بانوراما، مسابقة الأفلام القصيرة، مهرجان سينما الطفل، مسابقة الفيلم الألماني، المنتدى. وهذه الأفلام من دول عدّة، تبدأ من إيران ولا تنتهي في الصين واليابان. ويخصّ المخرج الإسباني لوي بونويل بتحيّة خاصة عبر عرض سلسلة من أهمّ أفلامه...
«مهرجان برلين» أراد أن يراهن هذا العام على الأفلام التي تدور حول الموسيقى، وعلى الـ«ستار سيستم» (نظام النجوم)، لولا أنّ السياسة خذلته، بل اقتحمته من حيث لا يتوقّع...! من بين أفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، يراهن الجمهور والنقّاد على فيلم الأميركي بول توماس أندرسون «ستكون هناك دماء» الذي يمثّل فسيفساء ملحميّة عن بدايات الصناعة النفطية في كاليفورنيا. كذلك فيلم البريطاني مايك لاي «الطائش» الذي تدور أحداثه في لندن ضمن قالب كوميدي معاصر. كذلك يشارك المخرج جوني تو بفيلمه «النشّال».
ومن فرنسا، تشارك ثلاثة أفلام هي «أحبّك منذ زمن» لفيليب كلوديل، و«لايدي جاين» لروبير غيديغيان، و«جوليا» لإريك زونكا المستوحى من فيلم «غلوريا» (1980) لجون كازافيتس. أما المخرجة الإسبانية إيزابيل كوكسيت، فتشارك بـ«مرثاة» المقتبس عن رواية «الحيوان المحتضِر» للكاتب الأميركي فيليب روث. والفيلم من بطولة بينيلوبي كروز التي تلعب فيه دور طالبة توقع أستاذها (بن كيغسلي) في غرامها. كذلك يعود المخرج الإيراني اللافت مجدي مجيدي بفيلمه «ترنيمة العصافير».
ومع أنّه من المبكر الحكم الآن على مستوى الأفلام المشاركة، فإنّ الفيلم الصيني «بالحب نثق»، أعادنا بقوّة إلى أرض الواقع بعد فيلم سكورسيزي. إنّه فيلم للمخرج وانغ أكساوشواي، تبحث فيه البطلة عن طريقة تُبقي فيها ابنتها المريضة بسرطان الدم حيّة. والمخرج أكساوشواي من الجيل السادس في السينما الصينية (جيل ترعرع في الثمانينيات)، وهو بذلك يقف في وسط المسافة تقريباً بين المخرجين المشاركين هنا بأفلامهم. على البرنامج أيضاً شيخ المخرجين: البولوني أندريه فايدا الذي يقدّم فيلمه الجديد «كاتين» ضمن المسابقة. ويتناول الفيلم المجزرة التي ارتكبتها الشرطة السرية السوفياتية، بأمر من ستالين بحق 33 ألف ضابط بولوني بينهم والد المخرج في بلدة كاتين عام 1940. وفي المقابل، على البرنامج عدد من الأسماء الجديدة، مثل دنيس لي الذي يقدّم باكورته «النار في الحديقة» ضمن المسابقة. فيلمه من بطولة جوليا روبرتس ورايان رينولدز وأميلي واتسون، يعكس مدى الثقة التي منحها هؤلاء النجوم لمخرج يخطو خطوته الأولى في مجال السينما الروائيّة الطويلة...
والسؤال يبقى: هل تربح السينما الفقيرة في «برلين» الذي يُختتم نهاية الأسبوع المقبل بفيلم الأميركي ميشال غوندري «من فضلك، لفّها من جديد»؟ وهل ينتزع هذا العام أيضاً فيلم ذو ميزانية متواضعة جائزة «الدب الذهبي»؟ بعدما فاز بها العام الماضي فيلم دخيل على نادي المشاهير، هو «زواج تويا» للصيني وانغ كوانان. أيّام قليلة ونمتلك الإجابة!