strong> خليل صويلح
•عن هواء أسود عفن يحاصر مدينة الموت

«مديح الكراهية» مُنعت في سوريا، فصدرت عن «دار الآداب» في بيروت... وأوصلت صاحبها إلى القائمة النهائيّة لجائزة «بوكر العربية» مع بهاء طاهر، ومكاوي سعيد، وميّ منسّى، وجبور الدويهي. إنّها رواية عن القمع المزدوج بين الأصولية والسلطة، في مجتمع محروم من الديموقراطية

ينفي خالد خليفة أن تكون روايته «مديح الكراهية»، وصفاً تسجيليّاً لحقبة عاصفة شهدتها سوريا مطلع ثمانينيات القرن المنصرم... تلك الحقبة التي قادت إلى صراع دموي بين السلطة والأصوليّين. ويرى أنّ «ذلك الزمن المجنون في تاريخ بلد، طالما اشتهر أهله بالتسامح والعيش المشترك، هو مجرد خلفيّة لأحداث عشتها من موقع الشاهد. أما ما عدا ذلك فهو تخييل روائي لمقاربة حيوات شخصيات وجدت نفسها في قلب العاصفة». ويستدرك بقوله «إن الخيال الروائي عنصر ضروري لتأكيد بهجة الكتابة ومتعتها».
الرواية التي صدرت طبعتها الثانية منذ أيام عن «دار الآداب» في بيروت، إثر منعها في سوريا، كانت واحدة من ستّ روايات وصلت إلى التصفية النهائية لجائزة «بوكر» في نسختها العربية الأولى. وجاء في قرار لجنة الجائزة أنّ خالد خليفة «تمكّن في هذه الرواية من سرد تجربة القمع المزدوج في ظل التنظيمات الأصولية وداخل مجتمع محروم من الديموقراطية، من خلال لغة متعددة المستويات وشخصيات ممزّقة أمام أسئلة المستقبل». هذه النتيجة لم تمر بسلام لدى بعضهم، إذ أثارت سخط كثيرين لجهة غياب «أسماء مرموقة» في المشهد الروائي العربي في قائمة الترشيحات (عدا المصري بهاء طاهر ربما). في المقابل، يجد آخرون أنّ هذه الجائزة تُعنى بالنص أولاً، بصرف النظر عن صاحبه، بدليل أنّ عشرات الروائيين العرب شاركوا في المسابقة عن طريق ناشريهم، ولم يحالفهم الحظ.
هل هي محاولة لقلب الطاولة على أجيال الكبار؟ يقول خالد: «المسألة لا تتعلّق بقلب الطاولة أو غيرها، بل هي محاولة لرمي حجر ثقيل في بحيرة الثقافة العربية الراكدة، واعتراف برواية عربية جديدة، تشتغل على سرد مختلف وتقارب مناطق شائكة. لكنّ إهمال النقاد لهذه التجارب ولّد قناعة لدى الروائيين الجدد بأنّه يستحيل اختراق هذه المافيات الثقافية التي ظلت عقوداً طويلة تستأثر بالصفحات والمجلات والدراسات النقدية، والتسويق في المهرجانات والمؤتمرات العربية. لهذه الأسباب، ربما، تأتي أهمية «جائزة بوكر» بوصفها غربالاً لكمٍّ هائل من الروايات العربية». وإذا كانت حلب بكل توابلها وروائحها وتاريخها هي مسرح الأحداث في الرواية، إلا أنّ «مديح الكراهية» تتجول في جغرافيات مختلفة، من سمرقند إلى أفغانستان، مروراً بالرياض وعدن ولندن، تبعاً لترحال الشخصيات وأقدارها.
تروي الحفيدة في أسرة تعمل في تجارة السجّاد حكاية عائلتها، وعلى وجه الدقة حكاية خالاتها في بيت الجد حيث كانت نشأتها. وفي ذلك المنزل، بغرفه المتعددة، تكتشف عالماً خصباً تصنعه خالاتها، برفقة أعمى يعمل في تحضير العطور جلبه الجد من أمام أحد الجوامع، فصار واحداً من أفراد الأسرة. الحفيدة التي ستدرس الطب في جامعة حلب مطلع الثمانينيات، ستجد نفسها في مهب العاصفة بعد انفجار الصراع بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين، ومن موقعها الأصولي وتربيتها الدينية الصارمة تنمو في داخلها بذرة الكراهية لكل الطوائف الأخرى. وبعد اعتقالها، تتعرف في السجن إلى مزيج اجتماعي لفسيفساء سوريّة شديدة الغنى، ما يضعها أمام منعطف آخر في تفكيرها، «الكراهية التي دافعت عنها كحقيقة وحيدة تكسّرت تماماً، أعادتني إلى الأسئلة الأولى حول حقيقة الانتماء، ووجودي كائن مادي يسبح في فراغ هلامي، حياتي مجموعة استعارات من آخرين».
هكذا، ستتكشّف مصائر الخالات عن تحوّلات تراجيدية: فمريم الخالة الكبرى ستنتهي بالنوم في تابوت بدلاً من سريرها ، في انتظار موت أبيض، بعد سلسلة انتظارات خائبة. فيما تكسر مروة تقاليد العائلة بالهروب مع نذير المنصوري، الضابط في سرايا الموت. هذا الضابط الذي أحبّها منذ اقتحم البيت في دورية تفتيش، ووجدها في القبو تحنّط الفراشات. أما صفاء، فتوافق على الزواج من عبد الله اليمني، لينتهي بها قدرها في قندهار برفقة زوجها المجاهد في أفغانستان.
أمّا الراوية التي درست الطب في جامعة حلب، فتنتهي من جهتها في لندن طبيبة متمرنة: «وحيدة أبحث عن صور الموتى واستعارات لأتبادلها مع الآخرين كسحلية دميمة وعذراء».
يقول خالد خليفة إنّ انهماكه في التفاصيل جاء من باب «فضح ثقافة الكراهية التي بُنيت عليها كل الحركات الأصولية التي نراها اليوم». في «مديح الكراهية»، تتجاور أساليب السرد وإن غلبت عليها نفحة الواقعية السحرية، لجهة غرائبية مصائر الشخصيات وسلوكياتها، وخصوصاً شخصية الأعمى الذي كان ملاذ نساء الرواية بعدما تشظّى أفراد العائلة بين السفر والموت.
لكنّ وجود تلك الشخصية، أضفى مناخاً استثنائياً على فضاء الرواية لجهة الرائحة... إذ تتناوب السرد روائح كثيرة من رائحة العطر إلى رائحة البهار، ورائحة العفونة في سجن النساء ورائحة الصابون في الحمّام العمومي، وانتهاء برائحة الموت. هكذا، تتلاشى رائحة العطر تدريجاً لمصلحة هواء أسود عفن أطاح مدينة حلب ليحوّلها إلى مدينة موت. تصف الراوية تلك الأيام بقولها: «كلما ازداد رعب المدينة، ازددت يقيناً أنّ الكراهية صنعت مني امرأة صلبة غير تلك الفتاة الخجولة التي تقف في العتبة خائفة من الوحدة واليتم، شهران في صيف لا ينسى، عنفواني وصل إلى آخره بعد إعدام مجموعة من خيرة شبابنا، كما وصفهم خالي في صلاة الغائب التي أقيمت على أرواحهم».
تبدو الرواية في نهاية المطاف كما لو أنّها سجادة فارسية بزخارفها ورسومها وألوانها المتعددة والمتناوبة... فهي تشبه جدارية ضخمة بفسيفساء أحداث متلاطمة. كما تؤرشف لأربعة عقود من تاريخ سوريا الحديث، بدءاً من ولادة الراوية في عام 1963، تاريخ صعود حزب البعث وتسلّمه السلطة، وانتهاءً بمنتصف التسعينيات زمن كتابة الرواية. كأن السرد المراوغ في المآل الأخير، كان ذريعة لكتابة هذا التاريخ العاصف والملتبس.



strong>في دائرة المحرّم السياسي هل تنتصر الجائزة على الرقابة؟
بعد روايتيه «حارس الخديعة» (1993) و«دفاتر القرباط» (2000)، اقتحم خالد خليفة (43 عاماً) المشهد الروائي السوري بنصّ مغاير لجهة التأريخ والنبش في المسكوت عنه. ذلك أنّ «مديح الكراهية» هي من أكثر الروايات السورية التي قارعت المحرّم السياسي جرأة في المكاشفة والهتك والفضح. إذ إنّ أحداث الثمانينيات بكل قسوتها ودمارها الروحي ظلّت بمنأى عن اهتمامات الرواية السورية، عدا أعمال قليلة، كان أبرزها رواية «كما ينبغي لنهر» لمنهل السراج، التي أرّخت أحداث الصراع بين السلطة والأصوليين في مدينة حماة. كما عرّجت روزا ياسين حسن على هذه الحقبة في روايتها «أبنوس»، وحسيبة عبد الرحمن التي كتبت تجربتها في المعتقل السياسي في «الشرنقة»، ونبيل سليمان في «سمر الليالي». وقارب خليل الرز فضاء حلب الثمانينيات بشكل موارب في روايته «سلمون إيرلندي».
تفكيك المحرّم السياسي جاء متأخراً وجزئياً، لكن بتواتر متسارع. وها هي «مديح الكراهية» تؤسس فضاءها كاملاً برصد ما جرى في حلب من موقع التوثيق والتخييل، في مدوّنة ضخمة تؤرخ فصولاً من الدم والثأر والكراهية، لتعيد «طرح الأسئلة الحارقة عن الصراع بين الأصوليين والسلطة، وهي حقبة كادت تقضي بها ثقافة الكراهية على الأخضر واليابس».
لكن هل تنقذ جائزة «بوكر» هذه الرواية من تعنّت الرقابة السورية في عدم السماح بالتداول، ويُفرج عنها؟ وخصوصاً أنّ لجنة تحكيم الجائزة تضع هنا الرواية السورية الجديدة في صدارة المشهد الروائي العربي، بعدما ظلّت طويلاً في أدراج الإهمال والتجاهل والنسيان...