محمد خير
عندما تتحدّث إسرائيل عن «انسحاب»،يعرف الفلسطينيون أنها تخطط لترسيخ الاحتلال.وعندما تُعلن الحكومات العربية «إصلاحاً اقتصادياً»، يفهم الشعب أنّها تنوي خفض الدعم المقدّم إلى الفقراء... فماذا عن وثيقة «تنظيم البثّ الفضائي» التي اعتمدها أخيراً وزراء الإعلام العرب؟

للفنان السوري دريد لحام عبارة شهيرة، يقول فيها: «لا يمكن أن يتّفق المسؤولون العرب إلا إذا كانوا وزراء داخلية»، فماذا إذاً عن وزراء الإعلام؟ رجال الأنظمة الذين يشغلون وظيفة انقرضت في معظم أنحاء العالم... هل يُعقل أن ينتظر المواطن العربي في 2008 وزارة ما كي تقوم «بإعلامه»؟ لم تستطع السلطات العربية أن تقاوم العصر، زحفت جحافل الفضائيات واحتلت سماء البث، رغماً عنها. لكن القوانين الحديدية التي تنظم منح رخص البثّ وإنشاء القنوات ظلّت كما هي. ربما تتساهل مع هذا أو تتباسط مع ذاك، لكن المنح والمنع يمرّان في النهاية من البوابة الأمنية. الخلافات بين الأنظمة فتحت باباً لرعاية الفضائيات من باب الشماتة، لكنّ الباب نفسه كان الممر لإغلاق مكاتب المحطات هنا وهناك. وكانت الديموقراطية الأميركية هي القدوة والمعلّم: أغلقت مكتب «الجزيرة» في العراق منذ بداية الغزو، ضيّقت الخناق مراراً حتى على مكتب «العربية» في بغداد وأغلقته أكثر من مرة، على رغم وضعه «الخاص». تتابعت وتنوّعت وسائل التضييق على مراسلي الفضائيات: الإغلاق والتخويف، وتوجيه التهم والدعاوى القضائية، والترهيب عن طريق جهات وتيارات غير رسمية، وحملات الهجوم في الصحف الأقرب للحكومات، والطعن في الشرف والانتماء والوطنية، باجتراح نظريات المؤامرة...
غير أن كل ذلك لم يكن ـــــ على ما يبدو ـــــ كافياً. إذ رأى السادة وزراء الإعلام العرب، ضرورة «تنظيم» البث الفضائي العربي، عبر بنود ظاهرها التقنين، وباطنها كلمات وتعابير فضفاضة قابلة للتوسيع والتضييق، حسب الحالة. وهو ما يميز عادة القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات، ولمَ لا؟ فاجتماع الوزراء العرب الذي خرج بوثيقة تنظيم عمل الفضائيات، وعُقد في القاهرة يوم الثلاثاء المنصرم،
كان اجتماعاً استثنائياً. لم يستطع أصحابه انتظار انعقاد الاجتماع العادي في حزيران (يونيو) المقبل.
تحت عنوان مهيب هو «مبادئ تنظيم البث والاستقبال الفضائي الإذاعي والتلفزيوني فى المنطقة العربية»، يندرج 13 بنداً مخصصاً لأكثر من 60 هيئة بث ّعربية، تتحكم في حوالى 400 قناة فضائية. والبنود تملأ الوثيقة كلاماً عن الشفافية وعن حرية المعلومات والحق في الحصول عليها، وتأكيد الهوية العربية، وتطبيق معايير العمل الإعلامي. لكنك بسهولة تستطيع التوصل إلى «مربط الفرس»: بنود وكلمات قد تمرّ عليها سريعاً لو لم تكن عربياً. لكنها هنا تمثّل كل شيء. مثلاً؟ تؤكد الوثيقة على ضرورة «الالتزام بالموضوعية والأمانة واحترام كرامة الدول والشعوب وسيادتها الوطنية وعدم تناول (قادتها) أو الرموز الوطنية والدينية بالتجريح». طبعاً، مفهوم أن المقصود من البند هو «قادتها»، كأن القوانين المكبّلة للحريات في العالم العربي لا تكفي لحماية «قادتها». ثم ما المقصود «بالرموز الوطنية»؟ هل هي الزعامات التاريخية؟ رؤساء الأحزاب الحاكمة؟ أمراء الأسرة المالكة؟ أم أن المقصود رموز معنوية؟ وهل بإمكان لزعيم ما أن يكون «رمزاً وطنياً» أكثر من النيل مثلاً أو شجرة الأرز؟
في عصر الفضائيات و«السماوات المفتوحة»، بدت تصريحات وزير الإعلام المصري أنس الفقي يوم الثلاثاء تنتمي إلى العصر الحجري. إذ بعدما أكد على ضرورة تطوير الإعلام العربي لمواكبة الأحداث في العراق وفلسطين والسودان، قال إنه يعلم أن الإعلاميين يدركون أن مسؤوليتهم «لم تعد فقط قاصرة على إعلام المجتمع بما يدور فى عالمنا. بل أيضاً حمايته مما قد يتعرض له من مؤثرات دخيلة عليه». الفقي الذي أعلن أن مصر ستكون في طليعة من يطبقون الوثيقة الجديدة، تحدث كثيراً عن «تجاوزات» الفضائيات و«المزايدات» التي أصبحت «مهنة من لا مهنة له». كما أشار إلى بعض الفضائيات التي أصبحت «أداة لهدم المجتمعات العربية». إنها الحرب إذاً، فتلك التصريحات أشبه بما يتحدث به وزراء الداخلية بعد فضّ اعتصام أو تظاهرة. وهي إضافة إلى ربطها المعهود بين الحرية و«المسؤولية»، تقدم تفسيراً واضحاً لبنود اتفاقية يبدو أنها لم توضع من أجل عيون «الشفافية» وتنظيم البث الفضائي. بل من أجل وقف بعض الفضائيات عند حدّها، والتحكّم في ما تنطق به استديوهات الهواء. وهي تهدد «المخالفين» صراحةً بعقوبات رادعة، فتمنح السلطات المختصة في كل بلد عربي الحق في «سحب ترخيص المخالف أو عدم تجديده أو إيقافه للمدة التى تراها مناسبة». ويمكن فهم مدى خطورة مثل تلك العقوبات في وثيقة تحمل بنوداً يمكن تطبيقها على الجميع، إذ تمنع بثّ «كل ما يتعارض مع توجهات التضامن العربي أو مع تعزيز أواصر التعاون والتكامل بين الدول العربية أو يعرّضها للخطر».
هل هي صدفة ــــــ إذاً ــــــ أن امتنعت دولة قطر، صاحبة قناة «الجزيرة»، عن توقيع الوثيقة؟ حتى لو كان الامتناع ـــ كما قال أنس الفقي ــــ قانونياً لا سياسياً... وهل هي صدفة أن الدولتين اللتين دعتا إلى الاجتماع لاعتماد الوثيقة، هما مصر والسعودية؟ البلدان الأكبر والأكثر تعرضاً للانتقادات في الوقت نفسه لسياساتهما «الأميركية». أمّا ما لا يمكن أن يكون صدفة، فهو اتفاقية المنع والتقييد التي لاقت إجماعاً، يندر أن يحدث لدى الوزراء العرب.
بعد كل ذلك، هل يمكن ألا تكون الوثيقة «تقييداً» لفضائياتنا التي أصبحت تربو على 400 قناة؟