strong> حسين السكاف
•ظلّ الجندي الإسرائيلي يخيّم على مسرح الجريمة

بين بغداد وكوبنهاغن رسم لنفسه مساراً خاصاً في الحركة التشكيليّة العراقيّة. فان غوغ أدخله إلى الفنّ، ثم تأثّر بكوكوشكا، بالتعبيريّة التجريديّة وجماعة الكوبرا. انتقل من اللوحة إلى التجهيز، لافتاً النظر قبل عشر سنوات في القاهرة... وفي «معتقل الخيام» حقّق حلمه الكبير. ويحضّر حالياً لمعرض عن «الفن والمنفى»
«رسائل إلى أخي ثيو: سهرة مع فنسنت فان غوغ» كان أوّل كتاب يقع بين يديه، قرأه بشغف. هكذا اكتشف عوالم فان غوغ، وكانت لوحات المعلّم الهولندي الزاد الذي لازم خطوات عباس الكاظم الأولى في عالم الفن. في قسم الرسم التابع لـ«معهد الفنون الجميلة» في بغداد، لفت انتباه أستاذه رسول علوان. أخذ هذا التشكيلي العراقي بيده ليدلّه على التعبيريّة الألمانية ورائدها أوسكار كوكوشكا (1886 ـــــ 1980). منحه ذلك حساسيّة فنيّة خاصة، أضافت إليها مدارس الفنّ في إيطاليا والدنمارك ـــــ حيث يقيم الآن ـــــ عمقاً في الرؤيا وتنوعاً في المراجع.
هكذا، اتّجهت أفكار عباس الكاظم (1952) صوب البعد الإنساني وإيحاءاته، وأخذت طرق تنفيذ لوحاته تتطوّر بدءاً من الانطباعية ثم التعبيرية فالتجريد... حتى التعبيريّة التجريديّة التي تميّزت بها دول الفايكنغ متمثّلة في جماعة الـ«كوبرا». كل هذا تجسّد أشكالاً وأفكاراً في لوحاته، وتجلّى عبر قماشها وألوانها حتى وقت قريب... لكن إغراءات «الفنّ المفهومي» سرعان ما استحوذت على اهتمامه وأخذته إلى فضائها الملتبس...
تُرى ما الذي دفع عبّاس الكاظم إلى التفكير في تجهيز، أو عمل تركيبي ينتصب وسط قاعات عرض «بينالي القاهرة للفنون»، بعدما كانت اللوحة بإطارها وقماشها وألوانها، هي مَن تحتضن أفكاره وأشكاله التعبيرية؟ ثم ما الذي تحرّك داخله ليخرج من إطار اللوحة مرةً ثانيةً، ويطلق أفكاره التركيبية عبر ورشته الفنّية التي أقامها ضمن بينالي الشارقة الرابع عام 2001؟ وأيضاً عندما نفّذ عملاً تركيبياً آخر في معتقل الخيام في جنوب لبنان بعنوان «نذير حاجب الشمس»؟ يجيب الفنان العراقي بأن«الأعمال التركيبيّة، أو Installation يمكن أن تتلمّسها، وبالتالي هي أقرب إلى الواقع من اللوحة بشكلها التقليدي. لكن تبقى الفكرة وحدها التي تحدّد مادة التنفيذ. أجد أنّ الفرق بين اللوحة والعمل التركيبي، قريب من الفرق بين القصيدة والعمل المسرحي. كلاهما يحتفظ بسمو الفكرة ورسالتها الخاصة، وما الاختلاف سوى في طريقة العرض».
أمّا وطن عباس الكاظم فقدّمه عملاً تركيبياً أيضاً بعنوان «سرير بلا شبكة» ضمن «بينالي القاهرة السابع للفنون» (1998). هكذا، تجسّد العراق في سرير قديم منتصب على كثيِّبٍ رملي، خالٍ من الفرش، أو «شبكة الرقاد» التي سرعان ما يكتشفها الناظر معكوسةً على مرآة وضعت تحت السرير. وذلك في إشارة إلى أنّ الأمان والاستقرار في هذا الوطن (فرش السرير) أصبحا في عالم الذكريات (المرآة). كذلك ظهر وطن الفنان الكاظم (السرير) مائلاً إلى اليمين، كأنّه على وشك السقوط ما إن تهبّ العاصفة... يقول في هذا السياق: «وطني يقف الآن منتصباً على كثبانٍ رمليةٍ، قد تتحرك غداً لينقلب أو يتحول إلى هيئة أخرى... أو قد تغطّيه الرمال القادمة من الجهات الأربع، ليندثر كما هي الحضارات السالفة. وطنٌ يقف بين التيه والسراب. كل جَميله وما تختزنه الذاكرة تحول إلى صورة وهمية في مرآة تحاول جاهدة الصمود في وجه الريح والعواصف». هكذا رأى الفنان وطنه، ولم يكن يتمنى تلك الصورة لوطن ترسّخ داخل روحه وذاكرته... لكنه، ربما، كان يقرأ المستقبل. حاز «وطن» عباس الكاظم جائزة بينالي القاهرة ذلك العام، إضافة إلى جائزة الأونيسكو... وكانت المرة الأولى التي ينال فيها العمل نفسه جائزتين في البينالي.
بعد ثلاث سنوات، أطلّ عباس الكاظم على الجمهور من «بينالي الشارقة الرابع» بعمل عنوانه «شعلة لا ألف». في ذلك العرض التركيبي، تظهر صورة لعجوز عراقية تحمل الرغبة الكامنة في روحها المنهكة... الرغبة التي قد لا يشعر بها الآخر المترف وصاحب القرار. المرأة العجوز التي تجسّد بتعابير وجهها الفجيعة العراقية، تحمل همومها ووهنها من خلال عمل الفنان، طالبة ذؤابة شعلة تطفئ فيها رغبةً تافهةً: أن تشعل سيجارة، رغبة في تذوّق طعم مرّ قد ينسيها مرارة أعظم. إلا أن تلك الرغبة وغيرها من الرغبات باتت عصية على التحقّق.
أمّا عمله التركيبي «نذير حاجب الشمس» (2002)، فاستعاد فيه فكرة «السرير» لاعباً على أبعاده الرمزيّة مرةً أخرى... بنى الفنّان تجهيزاً من ثمانية أسرّة في معتقل الخيام. عباس الكاظم المولود بين دجلة والفرات، والمغترب من بغداد إلى روما، فكوبنهاغن، حلمَ دوماً بتحويل سجون العراق إلى متاحف حين تستعيد بلاده الحريّة. وحين أتته الدعوة ليشارك في تحويل معتقل الخيام إلى متحف فنّي يبقى شاهداًَ على أساليب التعذيب التي مارسها الإسرائيليون واشتغال الاحتلال على تقنيات إذلال الروح البشريّة،
راح عباس الكاظم يشتغل كأنّه يحقّق حلمه الكبير. وقد وجد فكرة تحويل المواد الباقية من السجن والسجناء إلى عمل فني، لأنها الأكثر صدقاً، وقرباً من التجربة المعيشة. هكذا، اختار تنفيذ عمله في قاعة «الشمس» في معتقل الخيام، وهي القاعة التي كان ينعم بها بعض السجناء بمكافأة عشر دقائق تحت أشعة الشمس.
أخذ الكاظم ثمانية أسرة كانت شاهدة على وجود السجناء وأحلامهم وآلامهم وكوابيسهم لسنوات طوال، وعرضها وسط القاعة... فيما بدا ظلّ جندي إسرائيلي ينعكس على هذه الأسرّة الثمانية، يتحرّك مع حركة الشمس. كأنّ الفنان ابتغى الدعوة إلى ولوج دواخل السجين لتلمّس همومه، والتأكد من أنّ الجندي الإسرائيلي بقي في ذهنه على رغم تحرّره. وهو يشير بذلك إلى أنّ الشبح الإسرائيلي، دائم التربص بالإنسان المحبّ للحياة، حتى لو بقيت الأسرة خالية من الأجساد تماماً، تربص الصيّاد الغارق في وحشيّته.
تحت سماء أخرى

درس عباس الكاظم الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة في بغداد بين 1970 و1976. ثم أكمل دراسته العليا في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، لينتقل بعدها ويتخرّج من كلية الفنون الجميلة في كوبنهاغن عام 1986.
نظّم معرض «أصوات بيننا» مع فنّاني المنفى والمهجر بين عامي 1994 و 1995. كما عمل مديراً فنياً لـ «ترينالي كوبنهاغن للفنون التشكيلية»، حيث توجّت جهوده في معرض لفنّاني المنفى بعنوان «تحت سماء أخرى» أقيم في كوبنهاغن عام 1996، عندما اختيرت عاصمةً للثقافة الأوروبية. شارك في هذه التظاهرة أكثر من تسعين فناناً من أربعين بلداً لمناقشة حالة الفن في المنفى. وها هو الكاظم اليوم يستوحي من هذه التجربة، ليعدّ معرضاً آخر سيبصر النور قريباً ويتمحور حول تيمة المنفى.
عمل الكاظم سنين طويلة في مجال اللوحة، قبل أن يتحوّل إلى الـ Installation. ويرى أنّ الأعمال التركيبية أثبتت أنّها أعمال تحريضية بامتياز. لغتها تعتمد إظهار الطاقة الكامنة داخل «الخامات»، لغة تعتمد الفكرة لإخراج تلك الطاقة وتحويلها إلى فكرة يمكن تلمّسها. الحديد والرمل ونشارة الخشب والماء والنار والطين والأسلاك والزجاج، ما هي إلا مواد منحها الفنان روحاً وخرج بواسطتها من دائرة الصورة المعلقة على الجدار الى الحجم الميداني حيث الفراغ. وبهذا تكون تلك الأعمال قد منحت المشاهد «دهشة الفكرة وقلقها».