محمد خير
نادراً ما كان مدير تصوير بارز بهذه الخصوبة في مجال التأليف، أي الكتابة النقدية والتأريخيّة، والتعليميّة أحياناً، عن الفنّ السابع. الفنّان والباحث المصري سعيد الشيمي يتناول هذه المرّة موضوعة اللون في السينما، وخلفياته الجمالية والتقنيّة والفلسفيّة


يندر أن تجد فيلماً مصرياً مميزاً، صوّر في ثمانينيات القرن الماضي، لا يحمل توقيع مدير التصوير سعيد الشيمي: بدءاً من «ضربة شمس» و«الحريف» للمخرج محمد خان، إلى «سوّاق الأوتوبيس» و«الحب فوق هضبة الهرم» لعاطف الطيب، مروراً بفيلم «الشيطان يعظ» لأشرف فهمي و«بئر الخيانة» للمخرج علي عبد الخالق. وقد حاز الشيمي، عن تلك الأفلام، جوائز لا تحصى، لكنّه أحصاها وفصّلها في نهاية كتابه الجديد «سحر الألوان ــــ من اللوحة إلى الشاشة»، الصادر أخيراً، في مناسبة الاحتفالات بمئوية السينما المصرية، ضمن سلسلة «آفاق السينما» التي تصدرها «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في مصر.
يندر أيضاً أن تلتقي سينمائياً عربياً يهتمّ بتدوين خبراته العلمية في كُتب. أما سعيد الشيمي (1943) الذي يعدّ باحثاً سينمائياً مميزاً، إضافة إلى مهنته كمدير تصوير، فقد سبق أن أصدر 13 كتاباً في فنّ التصوير أثرى بها المكتبة السينمائية المصرية، من أبرزها: «التصوير السينمائي تحت الماء»، «تاريخ التصوير السينمائي في مصر»، «الخدع والمؤثرات الخاصة في الفيلم المصري»، «الحيل السينمائية للأطفال»...
كتب الشيمي نتاج خبرة حقيقية طويلة، لرجل صوّر حتى الآن 107 أفلام روائية طويلة، و73 فيلماً تسجيلياً، و19 فيلماً فيها لقطات مصوّرة تحت الماء، استناداً إلى الأرقام التي أوردها أحمد الحضري في مقدمة الكتاب. وهو تاريخ أهّله للحصول على 37 جائزة محلية ودولية، إضافة إلى 12 تكريماً وتقديراً مختلفة. وعلى امتداد 430 صفحة، تتضمّن 264 صورة ولوحة، يصطحب الشيمي قارئه في رحلة فريدة من نوعها للتعرف إلى تلك العلاقة الوثيقة بين الألوان الطبيعية والمصنوعة وبين فن السينما.
إلى أي حد تأثر السينمائيون بالتقسيمات اللونية وتأثيرات الضوء الطبيعي؟ وهل حقاً جاءت محاولة المخرج الياباني الكبير أكيرا كوروساوا الانتحار، بسبب تحوّل السينما من الأبيض والأسود إلى الألوان؟ لماذا استخدم برتولوتشي تأثيرات الأبيض والأسود في بداية فيلمه عن إيطاليا الفاشية؟ أسئلة عدة ومتنوّعة وجذابة يجيب عنها الشيمي في كتابه المهم والممتع.
ينطلق الباحث من تعريف الثقافة بصفتها «صور الأشياء في عقول البشر وأنماطهم في إدراك هذه الأشياء، وعلاقتهم بها وتأويلهم لها». هذه «الصور» تفتقد إليها الثقافة العربية التي تنتمي إلى الحكي والقص أكثر بكثير من انتمائها إلى «الرؤية». إذ إنّ الصورة في الثقافة العربية الإسلامية ارتبطت بالقصّ، والمعنى المتخيّل من قراءة القرآن بالمعاني الفنيّة القوية في اللغة العربية، وجرس الألفاظ والحس التصوري للحكي، ما جعل ثقافة الصورة تسكن «عقل وخيال ووجدان المسلم»، على عكس العالم الغربي الذي ارتبط الدين المسيحي لديه منذ بداياته بالأيقونات المصوّرة واعتاد معتنقه في الغرب «رؤية» الصورة وقراءتها بالأعين، إلى أن وقعت النهضة الكبرى في أوروبا التي احتضنت عائلاتها الإقطاعية فنون الرسم والنحت والعمارة. هكذا، أصبح الفنّ والرسم للمرة الأولى في التاريخ أغراضاً اجتماعية فنية وثقافية، وليس أغراضاً حياتية وعقائدية فقط.
ويذهب الباحث والفنان المصري إلى أن التغيّرات الثقافية التي أحدثها الحكم العربي الإسلامي، قطعت الصلة مع ماضي الصورة لدى شعوب المنطقة... تلك التي كانت تملك تراثًا طويلاً مع فنون الصورة المتعددة منذ عهد الفراعنة، وما جاورهم من حضارات. انقطاع طويل انتهى عند «صدمة العين» التي وقعت للمصريين إبّان الحملة الفرنسية على مصر عام 1798.
تلك الصدمة يحكيها المؤلف اعتماداً على حكايات المؤرخ المصري الأشهر عبد الرحمن الجبرتي، عندما دخل الفرنسيون القاهرة واستولوا على دار «الألفي بك» ووضعوا عند مدخلها صوراً للقادة الفرنسيين ولوحات ملوّنة بالزيت على القماش المخصّص للرسم. أثارت الصور صدمةً بل خوفاً لعلماء وفقهاء المصريين بسبب دقّة رسمها وألوانها الزاهية. حتى إنّ بعضهم اقترب من اللوحات وأمسك بها فوجدها قماشاً. وبينما رفضها بعضهم واعتبرها أعمالاً شيطانية، يبدو طريفاً وصف الجبرتي لصور نابليون بونابرت «ترى صوراً كأنّها ستبرز في فراغ». على امتداد ستة أبواب تتفرّع إلى عشرات الفصول، يشرح سعيد الشيمي مفاهيم تناسق الألوان وتنافرها والفرق بين الألوان الساخنة وتلك الباردة، الألوان المتقدمة والمتأخرة، ألوان الحياة وألوان الموت. كما ينتقل إلى منشأ دخول الألوان في الصورة الفوتوغرافية والسينمائية، وقوة تأثير اللون في السرد الدرامي للفيلم، ليستعرض القدرات اللونية لأساطير الفنّ السابع، عبر فصول عنونها بأسماء المعلّمين الكبار: «أنطونيوني فيلسوف اللون»، «إنغمار برغمان وألوانه النفسية»، «الحب بين الرجل والمرأة بألوان ليلوش»، «ألوان الخيول النارية لباردجانوف»، «ألوان السيرك والفجور الروماني لفيلليني». ويفرد الشيمي باباً للحديث عن المرجعية التشكيليّة للسينمائيين من خلال تجارب عدد كبير من مديري التصوير، وعدد أقلّ من المخرجين من كل أنحاء العالم. ويولي اهتماماً خاصاً بالمخرج المصري شادي عبد السلام (أهدى المؤلف كتابه إلى صاحب فيلم «المومياء»).
وبعد باب قصير عن «الألوان فيما بعد التصوير»، يختتم المؤلف كتابه بباب عن «الألوان في الأفلام الآن»، يفرّق خلاله بين تسجيل الألوان الطبيعية على الشاشة، وبين استخدامها بتدخّلات لونية متباينة من صناع الفيلم. ويخصص فصولاً بالغة القصر (والأهمية) عن اللون في أفلام الأطفال. قبل أن ينتهي إلى ما يشغل الآن فضائيات الأفلام العربية، فيخصص سطوره الأخيرة للتعبير عن رفضه القاطع ظاهرة تلوين الأفلام القديمة المصوّرة بالأبيض والأسود، ويسلط الضوء على التجربة الأميركية التي أوقفت هذا «العبث» تماماً، في ثمانينيات من القرن الماضي.