سعد هادي
ينقل الباحث المعماري العراقي خالد السلطاني في «تناص معماري» (دار المدى) مفهوم التناص Intertextuality الذي يُعنى بالتداخل بين النصوص الأدبية، من حقل اشتغاله الأدبي إلى العمارة... معتبراً إياه وسيلةً ناجعة وهامّة في تنوّع مسارات «حوار الحضارات». هكذا، يتعقّب صيرورات هذا المفهوم من خلال الاهتمام بنوعية العمارة التي صمّمها وأنتجها المعماريون الدنماركيون في الشرق الأوسط، حيث تُعَدُّ مبادئ العمارة الإسلامية مرجعاً وتمثيلاً لخصوصية البيئة العمرانية.
إنّ عملية التناص المعماري، كما يوضحها السلطاني، هي عملية إبداعية يلجأ إليها المهندس المعماري بمحض إرادته، سعياً لإثراء منجزه التصميمي. وهي بهذا المفهوم ليست لاغية لشخصية المعماري/ المؤلّف عبر تذويبها في «الآخر». وليس هناك موت للمؤلف في هذه العلاقة التفاعليّة الديناميّة، كما يبدو من خلال تحديدات رولان بارت لها... بل العكس هو الصحيح. إذ إنّ فعالية التناص تكرّس حضور المعمار في العملية الإبداعية وتمنح منجزه كياناً فريداً.
ولعل اختلافاً واضحاً هنا بين مفهوم التناص في شكله الأدبي... وبين إعادة استخدامه في الحقل المعماري. إذ إنّ لحظة التناص الأولى، هي وليدة عملية غير واعية تنتج من إعادة تشكيل نصوص الماضي من دون تدخّل من المؤلف... إضافة إلى مؤثرات باطنية قادمة من أزمنة سحيقة، تختزنها ذات جامع النص. لذا، فموته ليس إشارة إلى فنائه أو خروجه النهائي من العملية الإبداعية، بل تأكيد أنّ عناصر كثيرة لا يتحكم بها تسهم في تشكيل نصوصه. أما عملية التناص المعماري، فهي عمليّة واعية يقوم عبرها المعمار بدراسة الأشكال المعمارية المنجزة، وتحديد ما يناسبه منها لإنتاج أشكال جديدة تخصّه. إنّها أقرب في هذه الحالة إلى الاقتباس، والسعي إلى تأسيس عمارة جديدة لا تنفصل عن ماضي المكان، ولا تخرج في الوقت عينه عن السياقات المعاصرة.
وهذا ما نجح فيه الكثير من المعماريين الأوروبيين في اشتغالهم على عمارة محلية في الشرق، تناسب شروط البيئة والسياقين الجمالي والتاريخي. وقد جرى ذلك عبر اقتباس ثيمات محلية، وإعادة توظيفها في بنى شكلية حديثة... وعبر عناصر تنفيذ لم تكن مستخدمة في الشرق، كالحديد والإسمنت. في سعيه للكشف عن خصائص التناص المعماري، يقدّم السلطاني نماذج من ممارسات المعماريين الدنماركيين، في تصاميمهم المخصصة للبلاد العربية. كما يقدّم مراجعة لأبرز ما أنجزه المعماريون العالميون: لوكوربوزيه وفرانك لويد رايت والفار آلتو وغيرهم، في الجزائر والعراق والسعودية ومصر. كما يقدّم مراجعة لأعمال معماريَين من الدنمارك، هما بورن أوتزن وهيننغ لارسن، اللذان درسا أهميّة التصاميم المنجزة في منطقتنا.
ومن اللافت أنّ الكثير من الشواهد المعمارية الشهيرة في العواصم العربية، هي من تصميم دنماركيين. وقد أصبحت حالياً جزءاً من الذاكرة ومنها: أبراج الكويت، البناية الجديدة للبنك المركزي العراقي، وزارة الخارجية في الرياض وغيرها. وكلّها تجارب تحمل الكثير من الجرأة لتطويع عناصر من ثقافة الحداثة الإسكندنافية، وإعادة إنتاجها في بيئة مختلفة، لكن بملامح ومواد عربية تتناسب مع أنماط التفكير وأساليب العيش.