القدس ـــ نجوان درويش
• نبيل الأظن في القدس... بحثاً عن «عقد هيلين»

المسرح الفلسطيني في مهبّ التمويل الأجنبي أموال الدعم التي تُضخّ بالملايين منذ «أوسلو»، هل تخدم الإبداع... أم تغرقه في زمن الثقافة الرخوة والتبشير الذي يضمن «الاستتباع والإخضاع»؟ كيف تنعكس الإشكاليّة الإنتاجيّة على الخطاب الجمالي والسياسي للمسرح في الأراضي المحتلّة؟

لعلّ المسرح يصلح أداةً لجسّ نبض بقيّة الفنون، وقياس وضعها، ورصد الواقع الثقافي عموماً في المنطقة العربية، ويمكن أن يكون مؤشراً إلى «الوضع الصحي» للمجتمعات العربية. أمّا في فلسطين، فيكشف وضع المسرح ثلاث ظواهر متلازمة تتفشى اليوم في الكثير من البيئات الثقافية العربية: ظاهرة «الثقافة الرخوة» و«الاستشراق الذاتي» و«التبشير الثقافي». وهي ظواهر تقع في صلب ثنائية «الاحتلال والمقاومة»... لكنّها تتعدى فلسطين، لتطال الممارسات الفنية في المنطقة العربية، وإنّ كنا نلحظها أكثر في الفنون البصرية والأدائية. وإن كان «الاستشراق الذاتي» و«التبشير الثقافي» ظاهرتين معروفتين، فـ«الثقافة الرخوة» هي من عوارض العولمة وإلى حد ما من عوارض «ما بعد الحداثة»، في اقترانها مع لحظة انسحاق حضاري لجنوب العالم والعودة المحمومة للفكر الكولنيالي.
غالباً ما تكون كلمة «التمويل» القاسم المشترك «البرّاني» بين هذه الظواهر. أما القاسم المشترك «الجوّاني»، فهو استتباع نفسي وتبخيس مستمر للذات الحضارية للإنسان العربي. وقد كان سؤال «التمويل» واحداً من الأسئلة المؤرقة طوال السنوات الماضية. إذ يعزو إليه المراقبون إفساد المجتمع المدني وبما فيه المجتمع الثقافي. فبسبب التمويل مثلاً اضطرّت مؤسسات مسرحية فلسطينية مثل «مسرح القصبة» لنقل مقارّها وأنشطتها من القدس إلى رام الله... ذلك أنّ التوجهات السياسية للمموّلين تفضّل تكريس رام الله «عاصمة ثقافية فلسطينية» عوضاً عن القدس. ولا تزال نوعية الأعمال المسرحية المنتَجة، تخضع (عن وعي أو بصورة غير واعية)، لخريطة التمويل والجهات التي تؤمّن الدعم المادي.
بعد حرب الخليج عام 1990، هبّت «رياح التمويل الأجنبي» على المنطقة، وجاءت «اتفاقية أوسلو» 1993 لتعلن بداية حقبة التمويل الأجنبي في فلسطين. هكذا، ضُخّت مئات ملايين الدولارات لـ«مؤسسات المجتمع المدني» التي نمت كالفطر، وعشرات من هذه الملايين ذهبت إلى الثقافة والفنون، والمشتغلين فيهما على هيئة «مشاريع» و«منح»...
«حين تدفع القنصلية الأميركية، يكون النصّ أميركياً. وحين يدفع الفرنسيون، نتحول إلى فرنكوفونيّين!» يقول المسرحي إسماعيل الدباغ الذي مثّل مع معظم المسارح الفلسطينية منذ بدايته مع «فرقة الحكواتي» المقدسيّة. حين ينظر إلى الخلف، يقول بهدوء: «بأمانة شديدة، التمويل حوّل المسرحيين إلى مرتزقة». ويضيف: «أهمّ عمل مثّلتُه في السنوات الأخيرة هو مسرحية «أبو حليمة» لأنّها كانت بلا تمويل. كل العاملين لم يقبضوا قرشاً واحداً... لكن جمعتنا الفكرة والخروج من دائرة التلوث».
وهناك نمط آخر من المسرحيات الخاضعة لنمط «الإنتاج المشترك»، ويتولّى إجمالاً مخرج «أجنبي» تقديمها بطاقم فلسطيني. المخرج الأجنبي ليس بالضرورة «أجنبياً» من حيث الأصل: إنّه أجنبي التوجه، يجيء عبر القنصليات المهتمة بنشر «حضارتها». وهنا، يبدو الفرنسيون الأكثر اهتماماً بهذا الجانب، ومن خلالهم يتم إحضار مخرجين وكتاب عرب يكتبون أو يخرجون بالفرنسية. فنجد الجزائري محمد القاسمي يطوّف مع وفد من كتّاب المسرح الفرنسيّين، ونجد الكاتبة الكيبيكية كارول فريشتت تعلّم كتاباً فلسطينيين تجاوزوا الستين، كيف يكتبون مسرحية. ونشاهد قبل أيام في القدس مسرحية «عقد هيلين» من المخرج اللبناني نبيل الأظن التي يقدّمها برعاية فرنسية، وبتمويل من الاتحاد الأوروبي. وهي ذات المسرحية التي أنتجها الأظن في فرنسا ولبنان وسوريا... مع ممثلين محليين من بلد العرض في كل مرة. في نسخة القدس من «عقد هيلين» نجد هيلين «الفرنسية» (الممثلة ميراي روسيل) تبحث عن عقدها الضائع في فلسطين، وسط ممثلين فلسطينيين تعلّموا كلمات يلقونها بالفرنسية. هكذا بدا أداؤهم أقرب إلى أداء مدرسي من طلاب اللغة الفرنسية في مدرسة الفرير... في مناسبة عيد الفرنكوفونية! بينما تبدو الممثلة «الفرنسية» صاحبة العرض، والممثلون «المحليون» مجرد «سنيدة» لهيلين «السيدة البيضاء» التي تبحث عن عقدها في بلادهم. كل المحاولات لتقديم حوار إنساني كانت محكومة بالفشل، بسبب التوجه التبشيري المتحكم بعملية الإنتاج. وإن كان الحوار هو الشعار المرفوع دوماً، فإن ما يجري في الواقع هو تبشير ثقافي. والتبشير، بعبارة الشاعر أدونيس في أحد آخر مقالاته («الحياة» 7 شباط/ فبراير 2008)، «قبرٌ بائسٌ للمعرفة وللحقيقة معاً. ذلك أن التبشير يتضمن الاستتباع أو الإخضاع».
وإذا وضعنا جانباً التمويل الإسرائيلي لإنتاجات مسرحية فلسطينية عبر «مهرجانات مسرحية عربية» و«مسارح عربية في إسرائيل»، فإن إشكالية التمويل الغربي للفنون في فلسطين تبقى جزءاً من إشكاليّات التمويل الغربي للثقافة في العالم العربي ومناطق أخرى من العالم. وهي قضية تجد جذورها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، لكنّها بشكلها الحالي إفرازٌ مباشر لتحولات العقدين الأخيرين، حين دخلنا ما يمكن تسميته زمن الثقافة الرخوة. وحين نتحدث عن «ثقافة رخوة»، لا نستفيد من مصطلح «الدولة الرخوة» ومقاربات المفكّر الاقتصادي سمير أمين للظاهرة في المنطقة العربية فحسب، بل نرى أنّ هذه الثقافة الرخوة التي تشكّلت في فلسطين هي من العوارض المباشرة لمفهوم الدولة الرخوة والسياسات الاقتصادية العالمية المكوّنة لها. مع فرق «بسيط»، هو أنّ الثقافة الرخوة تأتي عندنا في ظل عدم وجود دولة من الأساس، اللهمّ إلا دولة الاحتلال. وبهذا المفهوم، تبدو الوظيفة المباشرة للثقافة الرخوة تقديم سينوغرافيا ترافق العملية السياسية (اتفاقية أوسلو)، بما يدفع صوب فكرة كيان سياسي فلسطيني شكلاني، شديد «الرخاوة»، أو حتى وهمي، يتجاور مع دولة احتلال تحتكر القوة و«الصلابة»!

زهـــرة المدائـــن: صرخـــة استغاثـــة!

بدأ إسماعيل الدباغ حياته المسرحية في الأزقة الضيقة للقدس القديمة. وبدايته الرسمية كانت ممثلاً مع «فرقة الحكواتي» عام 1987 مع الانتفاضة الأولى... ويبدو الدباغ في حياته اليومية مؤرخاً غير رسمي للقدس، تتقاطع شخصيته مع شخصيّة بطله «أبو حليمة» في مسرحية «الأحداث الأليمة في حياة أبو حليمة» التي يقدّمها مع «فرقة الرواة». المسرحية هي مانيفستو فلسطيني ضد الفساد، وصرخة عميقة من مدينة القدس التي تعيش أسوأ لحظاتها باقتراب الذكرى الستين للنكبة.
«أبو حليمة» التي عرضت أخيراً في القدس ورام الله، ولاقت نجاحاً قلّما تلاقيه مونودراما مسرحية، ستشارك الشهر المقبل في «أيام عمّان المسرحية». وهذه المونودراما المقتبسة عن قصة للشاعر الفلسطيني طه محمد علي، هي تطوير لشخصية عبد الهادي الأهبل التي تتكرر في قصائد طه محمد علي، وتضرب على وتر حسّاس في الشخصية الفلسطينية، وتحديداً تلك السذاجة الرسولية أو ذلك الضعف الذي يكشف عن طبقات هائلة من الإنسانية.
تبدو المونودراما خياراً أساسياً للمسرحيّين الفلسطينيين في السنوات الأخيرة. ولعلّ ذلك هو خيار قسري نتج عن ضعف الحياة المسرحية وغياب مفهوم الفرقة المسرحية. فاليوم بعكس أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، لا نجد فرقاً مسرحية فلسطينية وما يتوافر هو مؤسسات تشتغل في المسرح وتنفّذ مشاريع وتوظّف فنانين أحياناً وتعيش حالة من الخواء تعكسها إنتاجاتها. وعليه، فالمونودراما تبدو تحرراً من ارتهانات التمويل وكلفة الإنتاج، وطريقاً منفرداً في مشوار جماعي هو مشوار المسرح.
حتى فرقة مسرحيّة كـ«الحكواتي» انتهت ممثلاً واحداً هو مؤسسها فرنسوا أبو سالم الذي وقف على الخشبة بعد عرض مونودراما «ذاكرة للنسيان» (عن نص محمود درويش) في «المسرح الوطني الفلسطيني» ليعلن أن يوم العرض هو ذكرى 25 سنة على تأسيس فرقة الحكواتي. كانت إشارة أبو سالم تبعث على الأسى لحال القدس التي تفقد كل يوم نسيجها المديني وتبتعد أكثر عن فنّ المسرح!