برلين ــ محمد رضا
•فتّش عن السياسة بين شبح ستالين... والرأسماليّة المتوحّشة

بقيت إسرائيل خارج قائمة الجوائز في «مهرجان برلين» الذي اختتم مساء أوّل من أمس. وهيمنت القضايا الكبرى على الجانب الأبرز من الأفلام المشاركة، من أحزمة البؤس في أميركا اللاتينيّة إلى فظائع سجن أبو غريب. لكن هل يكفي ذلك لإنجاح المهرجان المحاصر بين «كان» و«البندقيّة»؟

كثيرون لم تعجبهم السلّة التي جمع فيها ديتر كوسليك،مدير «مهرجان برلين السينمائي»، الأفلام التي تسابقت على جوائز الدببة (ذهبية وفضيّة وبرونزية) في الدورة 58 من المهرجان التي اختُتمت أمس. صحيح أنّ هذه الأفلام يمكن عرضها في مهرجان، لكن ليس في مسابقة مهرجان دولي يواجه منافسة شديدةً ـــــ لا من «كان» فحسب، بل من «البندقية» أيضاً.
بالتالي، لم تكن التوقعات مهمّة بشأن هوية الرابح بين الأفلام الـ26 المتنافسة في المسابقة الرسمية، خصوصاً أنّه لا أحد وجد أمامه أفلاماً جيدة يحار بينها. هكذا، تُرك الأمر إلى ما ستأتي به لجنة التحكيم التي يرأسها السينمائي الخبير كوستا غافراس. فهذا المخرج الذي اشتهر بأفلامه ذات الحبكات الريبورتاجية السياسية، والأعمال التي تبحث في علاقة المواطن الفرد بالنظام، لا بد من أن يختار، للجائزة الأولى، فيلماً يناسب هذا الخطّ. والفيلم كان موجوداً. إنّه «فريق النخبة» للبرازيلي جوزيه باديلا الذي اشتهر بتركيزه على الأحداث الساخنة.
باديلا جديد على الساحة السينمائية. سبق أن أخرج فيلماً تسجيلياً واحداً هو «الحافلة 174» الذي تناول قيام رجل مسلّح بخطف حافلة ركّاب عام 2002. وهي الحادثة التي نقلتها تلفزيونات ريو دي جنيرو في بثّ حيّ، وانتهت تراجيدياً بسقوط عدد من الضحايا. في ذاك الشريط، تحدّث باديلا عن عدم كفاءة رجال الشرطة... وقد عاد إلى المقولة نفسها في فيلمه الجديد الذي حصد الدبّ الذهبي، مساء أول من أمس في برلين، وفيه يتناول فساد رجال الشرطة!
إذاً خرج «فريق النخبة» بالجائزة الأولى وفي ذلك مفاجأة صغيرة: لقد توقّع بعض النقّاد أن يطاول التكريم أفلاماً إسرائيليّة، في مناسبة الذكرى الستين لتأسيس الكيان الصهيوني. لكن الفيلم الإسرائيلي «قلق» لم تلحظه قائمة الجوائز، وهو ما يعدّ إثباتاً إضافياً لاستقلالية المهرجان، ودورته المنتهية تحديداً. كذلك أثبت غافراس ـــــ ولديه ثلاثة أفلام تتعامل وموضوع العنصرية ضد اليهود آخرها «آمين» ــــــ أنّه ليس في وارد التشجيع والمحسوبية. حتى وإن حمل «قلق» الذي أخرجه عاموس كوليك ما يمكن اعتباره عناصر “جذابة” منها الأجواء الحميمة للفيلم النيويوركي، على طريقة الراحل جون كاسافيتس. إضافةً إلى تناوله موضوعاً ساخناً حول يهودي ترك إسرائيل بعدما خيّبت ظنّه، وابنه الذي لا يزال يخدم في الجيش ويضغط على الزناد بقصد مرّة فيقتل رجلاً فلسطينياً، وبلا قصد مرّة أخرى فيقتل صبياً فلسطينياً كان يلعب الكرة في الجوار. كذلك تجاوزت قرارات لجنة التحكيم السينما الكلاسيكية بأسرها التي مثّلها الفيلم الياباني «كابي، أُمّنا» ليوجي يامادا، أي بالتالي سينما جنوب شرق آسيا بكاملها. ففيلم يامادا توجّه لمن يقدّر ذلك الأسلوب الهادئ، الياباني الهوية، رؤيةً وموضوعاً... والأغلب أنّه كان يصلح لمهرجان آخر على أي حال.
لكن فوز «فريق النخبة» كان إلى حد ما مفاجئاً... أولاً لأنّ الفيلم يميني المنهج، عكس ما هو معروف عن سينما غافراس، وثانياً لأنّ الأفلام الجيدة الأخرى ـــــ على قلّتها هذا العام ـــــ مصنوعة بخبرة ودراية أفضل وأعمق، وأبرزها «ستكون هناك دماء» للأميركي بول توماس أندرسن.
يتناول الفيلم بدايات الصناعة النفطية في كاليفورنيا، من خلال قصة رجل يصعد ضمن النظام الاقتصادي الأميركي محقّقاً الحلم الفردي لكن على حساب سعادته واستقراره العاطفي والنفسي. خرج هذا الشريط بجائزتين، هما الدبّ الفضي لأفضل مخرج، والدب الفضي لأفضل موسيقى التي منحت لجوني غرينوود عن موسيقاه الإلكترونية التجريبية التي هي من نقاط القوّة في الفيلم. في هذا السياق، استحقّ بول توماس أندرسن جائزته مخرجاً، وكان يستحق جائزة أفضل فيلم لكونه ببساطة أفضل الأعمال التي قُدّمت في «برلين» من وجهة نظر سينمائية محضة. جائزة لجنة التحكيم الكبرى ذهبت إلى الفيلم التسجيلي «إجراء روتيني» Standard Operating Procedure لإيرول موريس. وهو شريط جاد في أسلوبه لا يحمل تنويعاً في السينما التسجيلية، مثلما هي الحال مع الفيلم التسجيلي الآخر المشارك في المسابقة «ألق ضوءاً» الذي أخرجه مارتن سكورسيزي، أو اللعبة الريبورتاجية كما يمارسها عادة مايكل مور. الشريط هو صياغة قائمة على المقابلات وعرض الصور واللقطات. وما هو لافت بالطبع، أنّ ذلك يؤكد أن نتائج الجوائز هي سياسية بامتياز: «فريق النخبة» برازيلي ينتقد فساد الشرطة، «ستكون هناك دماء» ينتقد نشأة الرأسمالية الأميركية، و«إجراء روتيني» يدور حول ممارسات التعذيب في سجن أبو غريب.
على صعيد الممثلين، فاز إيراني غير معروف هو رضا ناجي عن دوره في «أنشودة الطيور» وممثلة بريطانية مغمورة هي سالي هوكينز عن دورها في «مستهترة».
في «أناشيد الطيور»، يؤدّي الإيراني رضا ناجي دوراً شاقّاً بتماسك فعلي: يجسّد رجلاً يعمل في مزرعة نعام، لكنّه يُصرف من عمله بعد هرب نعامة. أما الوظيفة البديلة لإعالة عائلته وتأمين ثمن سمّاعة لابنته الصمّاء، فتكون بتحويل درّاجته الناريّة إلى تاكسي. هناك تكرار في المشاهد وتطويل واستبدال إيقاع بآخر إلى أن يكسر بطل الفيلم ساقه في حادثة غير مبررة كثيراً. لكن بطل الفيلم الجديد للمخرج مجيد مجيدي شخصيةٌ ذات أثر والممثل ناجي يؤكدها ويتعامل بها كما لو كانت شخصيّته الحقيقية.
بالنسبة إلى سالي هوكينز، فإن ظهورها في «مستهترة» يندرج أيضاً في السياق نفسه: تجسّد امرأة لا تتوقّف عن الضحك، وعن النظر إلى كل مسائل الحياة كما لو كانت نكتة طويلة واحدة. حين نتعرّف إليها في مطلع الفيلم، نراها تقود درّاجتها الصغيرة إلى مكتبة صديقها المتجهّم وبالغ الجدّية. تناوشه لتستدرّ منه ضحكة، وحين تخفق تعود إلى حيث أوقفت دراجتها فلا تجدها. لا تشتم ولا تثور ولا يتغيّر مزاجها حتّى. قد يبدو هذا الأمر غير قابل للتصديق لو كان تحت إدارة مخرج آخر، لكنّ مايك لي الخبير في شذرات الحياة اليومية يُدخل بسهولة كل ما يتعثّر به مخرجون آخرون. تقرأ في عيني هوكينز الكثير: إنها فعلاً مرحة، وبالتأكيد نتاج شخصية تأقلمت على هضم الإشكالات والسلبيات... لكنّ ذلك لا يعني أنّها لا تشعر بالحزن حين يأتيها زائراً.
ومهما يكن من أمر، فالنتائج التي انتهت إليها لجنة التحكيم في الدورة 58 من مهرجان برلين، هي أفضل ما يمكن. كانت دورة حافلة بالأفلام التي لا تستحق جوائز والتي لم تفز بأية جائزة لحسن الحظ. وقد طرحت الدورة قضايا كثيرة في مقدّمها الموت، سواء على صعيد فردي كما في الفيلم الصيني «بالحب نثق» لوانغ كشاو شواي، أو على صعيد جماعي مثل فيلم أندريه فايدا «كاتين» عن المذبحة التي ارتكبها الجيش الروسي بحقّ عشرات آلاف الضبّاط البولونيين، خلال المرحلة الستالينيّة.
الجائزة الكبرى وتهمة الفاشيّة

11 مليون نسخة مقرصنة من «فرقة النخبة» تم تداولها في البرازيل الصيف الماضي. هذا النجاح يعكس ما يعنيه الفيلم للمشاهدين هناك: دراما حادّة تتعامل مع موضوع منفجر هو غيتو الفقر والعنف الذي ينتشر في ضواحي المدينة الكبيرة، حيث عصابات المخدّرات جاهزة لخوض معارك مع عناصر الشرطة الذين يجدون أنفسهم أقل كفاءة وتجهيزاً ميدانياً وعسكرياً. هذا إلى جانب الفساد والرشوة المنتشرين.
تجاه هذا الواقع، أسّست الحكومة البرازيلية نخبةً من رجال الأمن سمّته Bope مهمّته التصدي لتلك العصابات. يستعين المخرج جوزيه باديلا بكاتب سيناريو (رودريغو بيمنتل) أمضى 12 سنة في ذلك الفريق، ووضع اللبنة الأولى لفيلم واقعي يمثِّل نموذجاً عن المافيات والعصابات المنتشرة في أميركا اللاتينية.
يبدأ الفيلم بمشهد قتال في شوارع ذلك الحي، وينتهي أيضاً بمواجهات عنيفة، مستعيراً أجواء فيلم «مدينة الله» ذاك الذي أخرجه بنجاح مماثل فرناندو ميريليس عام 2002. على أنّ الكاميرا هنا أكثر توتّراً، والسعي إلى نصرة القانون على نفسه (فساد الشرطة) وعلى الخارجين عليه (الأشرار) مُعالج بنَفَس سُلطوي دفع النقّاد في «برلين» إلى إلصاق تهمة الفاشية بهذا العمل الذي انتزع الجائزة الكبرى!