strong>حسين السكاف
• ما مصير البيت الذي احتضن الفن العراقي الحديث؟

سبقت بنات جيلها إلى أوروبا للدراسة. في باريس تتلمذت على يد فرنان ليجيه. وبعد عودتها إلى بغداد، شاركت في تأسيس «جماعة بغداد للفن الحديث». قبل أيام انطفأت وحيدةً في البيت العريق الذي أعطى الفن العراقي بعض أبرز روّاده

في بغداد، وتحديداً في بيت لا يبعد كثيراً عن «أكاديمية الفنون الجميلة»، هدأت ثورة الألوان وهمد الشغف بموسيقى التراث ومسرّات الحكايات والأقاصيص البغدادية. لقد انطفأت قبل أيام قليلة نزيهة سليم، ابنة أهم عائلة فنيّة عراقية، تلميذة العراقي جواد سليم (1920 ــــ 1961) والفرنسي فرنان ليجيه (1881 ــــ 1955)... فتوقّف عالم فنّي كامل عن الدوران، عالمٌ مزج بين أساليب المدارس الفنيّة الأوروبية المختلفة من جهة، والفنّ التشكيلي العراقي من جهة أخرى.
نزيهة سليم (1927) تنتمي إلى عائلة أسهمت في تأسيس الحركة التشكيليّة العراقية منذ الربع الأول من القرن العشرين. والدها ومعلّمها الأول محمد سليم أسّس مع مجموعة من الفنانين، النواة الأولى لفنّ تشكيلي عراقي يتّخذ من البحث ودراسة أساليب المدارس الفنية العالمية مصدراً في بناء ثقافة الفنان وتطور أساليبه. أما شقيقها جواد سليم «صاحب نصب الحرية» فتأثرت به واستوحت أفكاره في تكويناتها وأفكارها الفنية. كما كان لشقيقها الآخر نزار سليم تأثيره الخاص على نزيهة.
كانت نزيهة سليم، أوّل فتاة عراقية تسافر إلى أوروبا لتدرس الفن، وتحديداً «معهد الفنون الجميلة» في باريس حيث أمضت أكثر من أربع سنوات في دراسة الفن التشكيلي. هكذا، تتلمذت على يد أهمّ الفنانين آنذاك، أبرزهم فرنان ليجيه الذي برز تأثيره في الأعمال التي رسمتها بعد عودتها إلى العراق عام 1951. وهو العام نفسه الذي تأسّست فيه «جماعة بغداد للفن الحديث» لتكون نزيهة واحدةً من الفنانين الذين أسسّوا هذه الجماعة. وقد تحوّلت هذه الأخيرة إلى مدرسة خاصة بأسلوبها ونظرياتها الفنيّة وصارت تعرف بحسب المصطلحات الفنية الحديثة بـ«مدرسة بغداد في الفن». شهدت تلك المرحلة أيضاً بوادر انقلابات جذرية وحاسمة في الثقافة والفنون، تحدّث عنها جبرا إبراهيم جبرا في كتابه «الرحلة الثامنة ــــ دراسات نقدية» ووصفها قائلاً: «كان الميل الأشد يتجه نحو هجر الانطباعية التي يلتزمها معظم الرسّامين من أجل شيء أعنف تعبيراً عن مضامين النفس، عن الغضب، عن التمرد. كانت الوجودية في تلك الآونة قد غزت أذهان الشعراء والأدباء والفنّانين في العراق، بنظريات فيها كثير من الإبهام الفلسفي، لكنّ فيها كثيراً من الحثّ على المخاطرة والتفرد، وفي الوقت نفسه على الالتزام. أما اليساريون ــــ وكانوا كثراً آنذاك ــــ فكانوا يطالبون بإنزال الفن إلى الشارع والمقهى، بإيصال التعبير إلى الجماهير، بالنطق عن حاجة الجماهير. وفي هذا الخضم من الرأي والإنتاج، تتألف «جماعة بغداد» لتحاول شيئاً أبعد من ذلك: لتحاول إيجاد أسلوب عراقي لا تأخذ من قوته نظريات التبسيط والقول المباشر».
بعد عودتها إلى بغداد، عملت نزيهة سليم أستاذة لمادة الإنشاء التصويري في معهد الفنون الجميلة، ثم أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، لتكون منهلاً فنياً لأهم الفنّانين العراقيين المعاصرين. هذه الأستاذة النبيلة كانت تأخذ طلابها إلى جميع الأماكن البغدادية التي تجد فيها مسحةً فنيةً أو تأثيراً لونياً خاصاً. ولهذا، عُرف الجيل الذي تتلمذ على يدها، بتميّزه الفني وانتماء أبنائه إلى مدرسة بغداد في الفن الحديث على رغم تباين أساليبهم وطرق تنفيذ أعمالهم.
تميّزت أعمال الفنّانة الراحلة باختلاف طرق تنفيذها وأساليبها التي تباينت بين الواقعية والانطباعية والتعبيرية والتجريدية. أعمال شغلها همّ فني يتّخذ من البيئة العراقية وموروثاتها مصدراً مهماً لأفكارها وأعمالها، من دون أن تتخلى عن تأثرها بمدرسة باريس في الفن. هكذا، صوّرت نزيهة سليم في أعمالها أغلب مجالات الحياة العراقية والبغدادية بوجه خاص. وقد احتلّت المرأة العراقية حيزاً كبيراً من إنتاج هذه الفنانة الرائدة التي رسمت موضوعات كثيرة تتناول حياة النساء وعاداتهن بأسلوب يعتمد التبسيط وقوة التأثير اللوني. وكثيراً ما أظهرت أعمالها تكوينات مختلفة للمرأة العراقية، كما في لوحة «بائع اللحف أو النداف». صوّرت نزيهة في هذه اللوحة بخلفية حافلة بالنقوش والطيور، امرأةً متشحةً بالسواد تجلس إلى جانب النداف، كأنها زوجته كونها لا ترتدي العباءة. أما طريقة جلستها وتعابير وجهها فتنطق بالحزن والشرود، حيث تصوّب نظراتها إلى الأعلى بعينين واسعتين جميلتين وفم مطبق كأنها تترقب حدوث شيء ما، أو غائب سيعود. بينما الرجل النداف بعمامته البغدادية، منشغل بخياطة اللحاف، وتكوين جسده المتكور بجلسة تظهر حركة رشيقة ومثيرة للغرابة والتساؤل كأنّه صوفي في حالة تأمل.
أما في لوحة «ليلة الدخلة»، فنلاحظ حضوراً كثيفاً للمرأة العراقية بمختلف الأعمار والتكوينات، تماماً كما هي الألوان الاحتفالية التي يحفل بها العمل. وتظهر اللوحة آلات موسيقية بيتية تستخدمها النساء غالباً في جلساتهن الخاصة، أو المناسبات كالأعراس وليالي السمر. والواضح من العمل وشخوصه أنّ العرس أقيم في منطقة ريفية، وهذا ما تدلّ عليه ملابس النساء، إضافة إلى الجوارب السوداء للمرأة بالثوب البنفسجي. والواضح أيضاً أنّ العرس قد تم، بكل شعائره وطقوسه. فغياب العروس من المشهد، وذلك الإطار الأصفر الذي احتوى شخوص العمل ووقوف الفتاة بالأحمر وسط العمل رافعةً ذلك الغطاء، دليل واضح على إتمام مراسيم ليلة الدخلة بشكل «مشرِّف» وفق التقاليد المتعارف عليها. وعلى رغم الجو الاحتفالي في اللوحة، إلا أننا نلاحظ أنّ نزيهة سليم لم تنس المرأة وهمومها. إذ عمدت إلى إحضار ذلك التكوين المعهود في بعض أعمالها حين صوّرت امرأة متكورةً تظهر في الزاوية العليا على يسار اللوحة، وهي متشحة بالسواد وتحاول أن تنضم إلى جو الاحتفال عبر التصفيق الخجول.
عاشت نزيهة سليم أعوامها العشرة الأخيرة وحيدةً في منزلها، دار عائلة سليم، الذي احتوت زواياه، لفترات متعاقبة، العديد من الأعمال الفنية من لوحات وتماثيل. ذلك البيت الذي خرجت منه نزيهة محمولةً على الأكتاف، كَثُر الحديث عن تحويله متحفاً فنياً. إلا أنّه تحول إلى خربة بشهادة الكاتبة فاطمة المحسن التي زارته بعد سقوط التمثال بأشهر لتجري حوارها مع نزيهة سليم.
ترى، هل حان الوقت لتحويل دار عائلة سليم الفنيّة إلى متحف بعدما أصبح ــــ برحيل قاطنته الأخيرة ــــ خالياً لأول مرّة منذ تشييده على يد المعماري العراقي الشهير مدحت علي مظلوم؟

عن جواد ونزيهة واجتياح بغداد

عن تأثّرها بشقيقها الأكبر جواد، نقلت الكاتبة العراقية فاطمة المحسن في حوار مع نزيهة سليم (نشر في جريدة «الرياض» السعودية بتاريخ 1/7/2003) أنّها صارت تستهدي بأخيها جواد وأفكاره وأسلوبه الفني. وأضافت: «أذكر مرة عرضتُ عليه لوحتي «سوق الصاغة» وأسلوبها يتبع أسلوب جواد، أي بغدادياته، فأدار وجهه ونظر بعصبية قائلاً: لماذا تقلّدين عملي؟ قلتُ: لأنني أحببت هذا الأسلوب. فقال: لن يصدق الناس أنّها من عملك وسيقولون إنّني رسمتها ووضعت عليها اسمك».
من سوء الحظ أنّه لم يبق من أعمال هذه الفنانة الرائدة الكثير. إذ تعرّضت أعمالها وأعمال أشقائها، جواد، نزار، سعاد ووالدهم محمد سليم، إلى السرقة كما هي حال أعمال أغلب الفنانين العراقيين التي تعرّضت للنهب عام 2003 عند دخول قوات الاحتلال الأميركية العراق. هكذا، لم تبقَ سوى ستّ لوحات أُنقذت من السرقة وهي: «بائع البطيخ»، «امرأة مستلقية»، «الأهوار»، «بورتريه لفتاة» ولوحة «الحرب» التي نفذتها عام 1980 بأسلوب تعبيري يصوّر الضحايا وهلع الناس البسطاء من دوي الانفجارات والصواريخ. ثم لوحة «الجدة» التي تعرّضت أجزاء منها للتلف والتخريب المتعمد. واللوحة تصوّر امرأة عجوزاً تجلس بانتصاب واضح لجذعها، كأنّها تستمع لحديث مهم جعلها تترك انشغالها بحياكة الصوف، حيث تظهر كورة الصوف في حجرها وإبرتا الحياكة في كفها اليمنى.