strong>وائل عبد الفتاح
تلعب آلهة الحظ معنا غالباً. تمنحنا حكومات، تتوحّد من أجل توفير السعادة. تخاف علينا، وتغلق السماوات التي تتساقط منها نيازك الشرّ. تخاف الحكومات على براءة شعوبها ونقائها من خطر يهدّد سلالة قيم نادرة، انقرضت في كل المجتمعات، وعاشت هنا سيدة على كل شيء. وزراء الإعلام العرب هم سفراء العناية الإلهية، اجتمعوا كي ينقذوا المجتمعات البريئة من الخطر الفضائي. كهنة مقدّسون أخرجوا تعويذتهم المقدسة من متاحف الفاشية. وثيقة أو ميثاق شرف ليس المهم اسمها، لكنها ستقيم الصوبة المناسبة، لكي لا يمسّنا شرّ السماوات. تعويذة مكتوبة بلغة فضفاضة، تصلح لكل شيء وتمنع الاقتراب من أشخاص مقدّسين، حكّام ورموز دينية. تمنع أي شيء، وتسمح بكلّ شيء. لا هي قانون ولا لائحة. تعويذة فعلاً للبركة. ستبطل سمّ المشاغبين الخارجين عن قيم الطاعة والخضوع. ولم أتخيل السعادة التي أصابت الناس من صدور تعويذة الإعلام الأخيرة. شاب قال لي: «الحمد لله، كنا سنضيع. السماوات المفتوحة أمطرتنا بحرية لا نحتملها... نحن مجتمع مختلف». رجل أكثر خبرة تمتم بحكمة: «ليس المهم الحرية، المهم تقاليدنا». جاره من العمر نفسه، أمسك العصا من الوسط: «فيها أشياء أعجبتني... وأشياء أعرف أنها تصادر الحرية». لكن الحرية ليست مهمة. بل خطر. فالمجتمعات المحافظة ترتاح للمنع. تشعر بامتنان تجاه السلطة المهووسة بالرقابة. تلعنها في العلن لأنها ضدّ الديموقراطية. لكنها تنام مطمئنة لأن هناك من يغلق السماوات المفتوحة لكي لا تمرّ نسمة هواء تجرح التقاليد. امرأة لئيمة سألت: «لكن لماذا خرجت تعويذة كهنة الإعلام الآن؟ هل هو تحالف مصري ـــــ سعودي ضدّ قطر؟ أم الملل من خروج الصحافة المرئية على الخطوط الحمراء؟». الأسئلة تدور حول تفسير ما تحت السطور، وبعضهم حمل إجابة واحدة: «إنها القنوات الدينية ستحدث فتنة». النقاش يشتعل والأخبار تتوالى عن دخول القنوات الفضائية في الحظيرة. تأهل المشاهدون لاستقبال شاشات معقمة، والمجتمع كلّه سيدخل علبة البلاستيك الشفافة، حفاظاً على منطق الندرة، وخوفاً من الانقراض. والميزة أنّه لا أحد سيفهم التعويذة، إلا أصحابها. الوزراء وحدهم سيفكّون الشيفرة، فلم يفهم أحد كيف تمنع الاحتكار والتشفير في مجتمع، يعتمد السوق الحرة ويكره أفكار حقّ المواطنين والاشتراكية والمواطنين... هل هي مداعبة لجمهور واسع يشعر بالغيظ من دفع ثمن الخدمة؟ صفقة منع التشفير مقابل منع لحرية... أفكار غريبة لم يفسرها الكهنة المنقذون في اجتماع القاهرة. الوزير المصري بدا أنه المتحدث الرسمي، وتكلّم فعلاً على طريقة مروجي المضادات الحيوية. كلامه كان شيفرة فهمها الموظفون القائمون على التصاريح بكلمة وحدة: «امنعوا». وفهمها أصحاب الفضائيات: «إنها حملة تفتيش». آخرون قالوا إنّها ربما صراع في أجنحة السلطة، وانتصر الجناح المعادي للحرّيات. الخبراء قالوا إنّها تذاكر عبور جديدة ومصافي للعابرين إلى السماوات المفتوحة، وربما إعلان حرب في السماء. التفسيرات أنعشت الغرام بالرقابة، وبدأت بالفعل عمليات قصّ الريش. عمليات ذاتية استعداداً للمرحلة المقبلة.
تفلسف بعضهم قائلاً إن الحرّية في خطر، فردّ عليهم متفلسفون آخرون أنّ الحرّية خطر. كلاهما دافع بمنطق أنّ الحرية لم تُصلح المجتمع، وأن هناك أخطاءً وخطايا آتية من السماوات المفتوحة. ولم يناقش أحد أنّ الحرية ناقصة وعاجزة، إذا لم ينتج منها أخطاء بل وخطايا. «لكن مجتمعاتنا لا تتحمل»، «الحرية ستدمرنا»... وحدهم الكهنة يبتسمون من بعيد. حققوا أغراضهم. ارتفعت أصوات في حلقات الذكر التي تلعن الحرية وتبرد نار الخوف بلسعات السلطة المجربة، سلفاً: «امنع ... وامنع... تعش مرتاح البال». ولتغلق السماوات، أو تتحول إلى سلع مهربة. سيعود زمن المحطات السرية... شكراً لآلهة الحظ.

وثيقة تنظيم البث الفضائي التي خرج بها اجتماع وزراء الإعلام العرب في القاهرة الأسبوع الماضي هي محور حلقة الليلة من برنامج «الاتجاه المعاكس». فيصل القاسم يناقش مدى قدرة هذه الوثيقة على تضييق الخناق على الفضائيات العربية، وموقف قناة «الجزيرة» الرافض لها. ويسأل ضيوفه (بينهم الأستاذ الجامعي أحمد بن محمد الجزائري): لماذا يتسابق الوزراء العرب على إخراس الإعلام الحرّ، بينما يتغاضون عن الكباريهات الفضائية؟
21:05 على «الجزيرة»