بيار أبي صعب
هكذا ترجّل المحارب القديم. على مهل أنزل عن كتفه اليمنى البندقيّة التي رافقته في كل المعارك، أكثر من نصف قرن. وضعها في ركن آمن. استلقى ببطء وهدوء، ثم مضى في استراحته الأخيرة.
إنّه أكثر من رجل واحد: الأديب والناشر والصحافي والمترجم. المثقف الملتزم، والعالم اللغوي ورجل القواميس. سهيل إدريس (١٩٢٥ ــــ ٢٠٠٨) الذي رحل صباح أمس كان قد انسحب شيئاً فشيئاً من دائرة الضوء. في السنوات الأخيرة، حاول أن يجد تسوية مع المرض والشيخوخة، هو الذي لم يساوم مرّة على قناعاته الفكريّة والأدبية والسياسيّة. لقد نظّم تركته جيّداً. نجله سماح منذ سنوات على رأس مجلّة «الآداب»، أعطاها نفساً جديداً، ولا يكاد يخرج من معركة إلا ليدخل في أخرى... وفيّاً ــــ على طريقته ــــ لهذا التقليد العريق الذي قامت عليه المؤسسة في زمن آخر. كريمته رنا على رأس «دار الآداب» التي تواصل رهانها على النوعيّة والجرأة والتجديد والاختلاف، تحت العين الساهرة للأديبة عايدة مطرجي رفيقة الدرب التي شاركت في وضع المداميك الأولى لمغامرة طويلة النفَس، تتواصل اليوم بالزخم نفسه...
وضع الأديب والناشر اللبناني نقطة نهائيّة، خاتماً الفصل الأخير من حكاية تختصر نصف قرن في مسار الوعي الثقافي العربي. من «الكليّة الشرعيّة» والتكوين الأزهري إلى الصخب الوجودي في باريس على أرصفة «الحيّ اللاتيني»، ومن الحلم الناصري إلى زمن النكسات والانهيارات... عاش سهيل إدريس أكثر من حياة، وبقي يدحرج صخرة سيزيف، مسكوناً بالهمّ القومي في زمن تفتت الجغرافيا وانحسار الأحلام. وبعد انقطاع طويل عن الأدب، فاجأ الجميع بجزء أوّل من مذكراته (هل هناك في الأدراج أجزاء أخرى؟) «ذكريات الأدب والحبّ» (٢٠٠٢) التي صدمت بجرأتها، وسلّطت الضوء على تجربة إنسانيّة وإبداعيّة فريدة.
من أين نبدأ اليوم، ونحن نستعيد محطات من سيرة الرجل ــــ المؤسسة وإنجازاته؟ من أدبه الروائي والقصصي القليل؟ من قواميسه؟ من معاركه وافتتاحياته في «الآداب» التي جمعها في «مواقف وقضايا أدبيّة»، ثم «في معترك القوميّة والحريّة»؟ وهل ننسى ترجماته الرائدة لسارتر وكامو ودوراس، ودوبريه وغارودي...؟
حين أقبل على الرواية كان همّه تدوين تجربته الشخصيّة في باريس، فإذا به يضع الحلقة الأولى من ثلاثيّة روائيّة، أشبه بسيرة ذهنيّة. حين يؤتى على ذكر «الحيّ اللاتيني»، سرعان ما نسمع أو نقرأ عبارة «صراع الشرق والغرب» التي تتردد دائماً. لكننا نستعيد أولاً سراب تلك الألزاسية الشقراء في لوحة ضبابيّة داكنة تسكن مخيّلة جيل عربي كامل عاجز عن قطع حبل السرّة مع التقاليد الثقيلة، ليلتحق بالحداثة. «الخندق الغميق» تدور حول صراع بين جيلين من أجل التقدم والتحرر. و«أصابعنا التي تحترق»، تجسّد مشاغل مثقف عربي في خضم التحوّلات السياسية والاجتماعيّة. هكذا هو سهيل إدريس دائماً، شاهد أمين على مشاغل عصره... هو الطالع من رحم مرحلة خصبة بالتناقضات والصراعات والمشاريع النهضويّة وأوهام الحداثة.
مع سعيد فريحة كتب مقالاته الأولى في «الصيّاد»، قبل أن يراسل «بيروت المساء» من باريس. نزار قبّاني كان شريكه في تأسيس الدار، بهيج عثمان ومنير البعلبكي أطلقا معه المجلّة. جبور عبد النور شاركه في «المنهل». مع قسطنطين زريق وأدونيس أسس «اتحاد الكتاب اللبنانيين» الذي بقي أمينه العام لدورات متتالية. وترك سعيد تقي الدين تأثيراً واضحاً على تكوينه. أحبطته النكسة فتوقف عن الأدب، وانصرف إلى تأليف القواميس. «الشيخ الصغير» خلع العمامة مبكراً، وأحبّ النساء حتى الرمق الأخير، وأعطى للأجيال اللاحقة مثالاً عن كيفيّة تحطيم القيود الاجتماعيّة، وانشغل بقضايا العروبة واللغة والأدب والحريّة والحداثة التي لم تفارقه يوماً. قد يبدو سهيل إدريس لبعض الجيل الجديد «محافظاً» في أذواقه الشعريّة، إذ بقي يزدري قصيدة النثر حتّى النهاية... لكنّه بالتأكيد أكثر من شخص في رجل واحد. ورحيله يعلن نهاية عصر!