محمد رضا
•المأساة الأفغانيّة ديكوراً لـ «سباق الطائرات الورقيّة»


قيل الكثير عن رواية الأفغاني خالد حسيني التي حققت النجاح في الولايات المتحدة. ثم جاء مارك فورستر ليحوّلها إلى فيلم بريء ظاهرياً حتى السذاجة، إذ يتجاوز السياسة، لكنّه، في العمق، يحمل خطاباً أيديولوجيّاً خطيراً


«سباق الطائرات الورقيّة»، شريط مارك فورستر الجديد الذي يعرض في الصالات اللبنانيّة، ينتمي إلى ظاهرة رائجة حالياً في السينما الأميركيّة، يجمع بينها قاسم مشترك، هو الغوص في الرمال المتحرّكة لهذا الجزء المشتعل من العالم... سنة لهيبه الولايات المتحدة، بعدما انقلب السحر عليها من أفغانستان إلى العراق!
المراهنة التي أقدمت عليها الشركات الأميركية المنتجة لهذه الأفلام كانت واضحة: حان وقت طرح الانعكاسات الأمنية والسياسية والاجتماعية المتأتية من الحرب في أفغانستان والعراق، وما آل إليه الوعي الأميركي بعد الحربين واعتدءات 11 أيلول. وقد تُرك لكل مخرج، طرح الجانب الذي يهمّه من القضيّة: هكذا، حقّق روبرت ردفورد فيلماً عن ثقافة الحرب في الولايات المتحدة في «أسود وحملان»، وتناول بول هاغيز في «وادي الإله» انعكاسات الحرب على الجنود الأميركيين العائدين من العراق. وقدّم المخرج غافِن هود في Rendition مرافعة ضدّ التضييق على الحريات في أميركا بعد 11 أيلول... بينما اختار برايان دي بالما تأثير غياب الصورة في صياغة الحقيقة بشأن حرب العراق في فيلمه الجيّد «منقّح».
مارك فوستر (صاحب «العثور على نيفرلاند») لم يختر «سباق الطائرات الورقيّة»، بل جاءه بعدما رفضه أكثر من مخرج، فقبل به. ومع أنّ المخرج يطرح نفسه مخرجاً ــــ مؤلّفاً، فالفيلم يمثّل وجهة نظر المؤلّف خالد حسيني، الروائي الأفغاني الذي ترك بلاده ليستقر في الولايات المتحدة، تماماً كما فعل بطل روايته المقتبس عنها الفيلم.
لكن إذا كان هناك من اختلاف آخر بين هذا الفيلم والأفلام المذكورة، فهو أنّ الجميع باستثناء فوستر سعوا إلى طرح قضايا سياسيّة، وإن تفاوتت نجاحاتهم. أما «سباق الطائرات الورقيّة» (أو «عدّاء طائرة الورق» إذا شئنا ترجمة حرفيّة للعنوان الإنكليزي The Kite Runner)، فهو الوحيد الذي يدقّ باب السياسة بأقلّ حدّة (ظاهريّة)، أو حتى يحاول أن يظهر من دون أي وجهة نظر سياسية.
ولو صدّقنا الخطاب الخارجي الساذج للفيلم، لقلنا: إنّها فرصة تائهة لصنع فيلم ذي وجهة نظر أفغانية بتمويل أميركي! لكنّ تفكيك الخطاب الخفي للفيلم، يجعلنا نكتشف أن المسلّمات التي تقوم عليها الحكاية «الإنسانيّة» البريئة، تعكس انحيازاً أيديولوجياً أكيداً، بل تحمل رسالة سياسية اختزالية وخطيرة. فالأب البورجوازي ينتقل من حياته المترفة في كابول إلى بؤس الهجرة الى أميركا، هرباً من «الهمجيّة» الروسيّة الزاحفة، والابن الذي كبر في أميركا يعود إلى جحيم أفغانستان لينقذ ابن أخيه، فيكتوي بنار همجيّة «الطالبان»... وبين «الهمجيّتين» (الشيوعيّة والإسلام) تبدو أميركا الملجأ الوحيد، مرتع السعادة والحريّة والرخاء.
في الفيلم الذي يستدرج المشاهد إلى التعاطف مع شخصياته الممزّقة، وبالتالي إلى كره «الأشرار» الذين سبّبوا تلك العذابات، لا أثر للغزو الأميركي لأفغانستان! ولا محاولة لفهم الدور الذي أدّته الولايات المتحدة في تشجيع نموّ الأصوليات الإسلاميّة التي ارتدّت عليها لاحقاً، بعدما انتهت وظيفتها في محاربة الشيوعيّة... صحيح أن خالد حسيني باشر كتابتها قبل أحداث 11 أيلول وقبل الغزو الأميركي لأفغانستان، ونالت نجاحاً واسعاً لدى صدورها عام 2003... لكنّ الفيلم أي تلك الآلة الايديولوجيّة الضخمة التي تقف وراءه، أُنتج بعد ذلك بكثير! فهل يكون ببساطة خياراً بريئاً؟
يبدأ الفيلم بمشهد يُظهر البطل أمير (خالد عبد الله) وقد أصدر روايته الأولى التي حازت الإعجاب في أميركا. يأتيه اتّصال من باكستان حيث لجأ صديق والده الوفي يطلب من أمير العودة إلى الديار. وفي حركة فلاش باك عود نحن الى طفولة أمير في كابول، وقصة صداقته بحسن، ابن خادم العائلة الذي سيكتشف، بعد كلّ تلك السنوات، من صديق والده المحتضَر في بيشاور، أنّه أخوه غير الشرعي. إنّه «فلاش باك» طويل نتعرّف فيه إلى أمير الصغير الذي يعيش في كابول مع والده (حومايون إرشادي) حاملاً شعوراً بالذنب لأنّ والدته ماتت عندما أنجبته. بينما يشكو من أنّ والده يفضّل عليه صديقه حسن.
يصوّر الفيلم العلاقة الأخوية الوطيدة بين أمير وحسن: يطيران طائرات الورق ويربحان في المسابقات المحلية (نظام طالبان حرّم لاحقاً لعب طائرات الورق). ونرى حسن يدافع عن أمير عندما تتعرّض له عصابة الحّي التي يرأسها فتى أكبر سنّاً يُدعى عساف (إلهام إحساس). ويوم انتصار الثنائي أمير وحسن في سباق الطائرات الورقيّة، ينفرد عسّاف وعصابته بحسن، فيغتصبه على مرأى من أمير الذي يرتعد في مخبئه.
هكذا يعيش أمير عقدة ذنب لأنه خان صديقه... ويروح يعدّ المكائد لطرد هذا الصديق والخادم الصغير من ربوع البيت العائلي. مباشرة بعد ذلك، يضطر أمير ووالده إلى الرحيل عن كابول بعد الغزو السوفياتي (يسميه الفيلم الغزو «الروسي»). ويكبر في الولايات المتحدة حيث يعيش والده من محطة وقود، ويتعرف إلى صبية من الجالية الأفغانيّة ويتزوجان، ويموت والده... ويواصل رهان الكتابة.
نعود الى أمير الكاتب الناجح. في أفغانستان يكتشف أحوال البلاد في عهد «طالبان». يعلمه صديق والده بأنّ تنظيم «طالبان» قتل حسن مع زوجته، طالباً منه أن ينقذ ابن حسن الذي يعيش في ميتم. وهنا ندخل الجزء الأخير من الفيلم الذي يجنح إلى المغامرة والتشويق، مفتقراً إلى أي مقدرة على الإقناع... يتنكّر أمير بلحية تقليديّة، ويذهب للبحث عن زهراب ابن أخيه، فيكتشف أن عساف (رئيس عصابة الطفولة، مغتصب حسن) الذي صار داعية طالبانياً هو الذي اشترى الطفل من الميتم وجعله بين «جواريه»! وبعد بعض المقالب والمواقف البطوليّة، ها هو الفتى المعذّب، ابن الخادم الأمين، في مطار سان فرانسيسكو... أرض الحريّة.
لا شك في أن إقدام فورستر على تحقيق هذا الفيلم، كان خطأً كبيراً، كونه يتحرّك مكبّلاً فوق أرضيّة حدودها مرسومة سلفاً... من الناحية الدراميّة والفنيّة لا يتيح الإيقاع الهادئ وحده مجال الوصول إلى أعماق الحالة الشعوريّة للشخصيات. كما أنّ الفيلم باكتفائه سرد بعض عناصر الحكاية الأصليّة، لا يتوافر على الحدّة الكافية، ولا على صراع درامي حقيقي. من جهة، هناك الضحايا، أفراد نتماهى معهم، ومن الأخرى تنويعة على «محور الشرّ» عبر حقب سياسية مختلفة من تاريخ المنطقة، قبل سقوط جدار برلين وبعده. لكنّ الشخصيات مجرّد إشارات مجرّدة لخطاب ايديولوجي مبطّن، يقتل فنيّة العمل بشكل جذري.
والأهمّ من كل ذلك، أنّ الفيلم يلقي نظرة «اكزوتيكية» إلى مكوّنات المجتمع الأفغاني ونسيجه ومشاكله منذ ما قبل سقوط النظام الملكي حتى طالبان مروراً بالغزو السوفياتي. ويمرّ مروراً سطحياً على المشاكل الاجتماعية (العنصرية العرقية والطبقية التي تجسّدت في علاقة أمير البورجوازي بخادمه حسن) والقضايا السياسية كمعاملة الروس للأفغان لدى احتلال المنطقة (اقتصرت على مشهد يُظهر جندياً روسياً يريد اغتصاب امرأة أفغانية!) أو نظام طالبان (الزانية المرجومة واللحى الطويلة). والخلاصة الضمنيّة لا تقبل النقاش: النموذج السياسي الأفضل ــــ بل الوحيد ــــ للإنسانيّة جمعاء، هو المجتمع الأميركي، مأوى المستضعفين وجنّة المبادرة الحرّة.
ومع ذلك، لا بدّ من مشاهدة «سباق الطائرات الورقيّة» الذي يسلّط الضوء على إشكاليّة فكريّة وأخلاقيّة هي من أبرز سمات زمننا الحاضر.

The Kite Runner، في صالات «أمبير»
www.circuit-empire.com.lb