تونس ـــ عبد الحليم المسعودي
السينمائي التونسي عبد اللطيف كشيش بات معتاداً على جوائز «سيزار» السينمائيّة، وهي المعادل الفرنسي لـ«الأوسكار» إذا جازت المقارنة. وها هو يطلّ للمرّة الثانية متوّجاً في باريس، من على أرفع محافل تكريم السينما الفرنسيّة. فبعدما حصد شريطه الثاني «المراوغة» ثلاث جوائز «سيزار» عام 2003، ها هو المخرج المهاجر الذي أثار فيلمه «أسرار الكسكس» La Graine et le Mulet اهتماماً عالمياً واسعاً، يفوز عن العمل المذكور بـ«جائزة أفضل فيلم» في حفلة توزيع جوائز الـ«سيزار» لهذا العام التي أعلنت أول من أمس.
يُعدّ عبد اللطيف كشيش (1960) من أهم المخرجين المغاربة الذين شقّوا طريقهم على الساحة السينمائية الفرنسية. لفت الأنظار للمرّة الأولى عام 2000، خلال «مهرجان البندقية/ فينيسيا السينمائي» الذي خصّ باكورته «خطأ فولتير» بجائزة «الأسد الذهبي» الخاص بالفيلم الأول. وبينما تتوالى مقالات الاحتفاء بالفيلم في باريس بعد الـ«سيزار»، يتدافع الجمهور التونسي على قاعة «أفريكا آرت» في العاصمة التونسيّة لمشاهدة الفيلم. فالصالة الوحيدة التي برمجت الفيلم هناك، أرادت أن تحتفي بتجربة تونسيّة بالأساس... علماً بأنّ وزارة الثقافة التونسية كانت رفضت تمويل «خطأ فولتير» بحجّة أنّه «لا يتحدث عن تونس».
يمكن أن نطلق على «أسرار الكسكس» صفة سينما السيرة الذاتية، أو الأوتوبيوغرافيا العائلية وقد أراده المخرج تحيةً إلى والده المهاجر الذي كانت حياته شبيهة بحياة البطل الرئيسي في الفيلم. يروي الشريط قصة السيد سليمان (حبيب بفارس) المهاجر الذي يعمل في ميناء فرنسي مطلّ على المتوسط. بعد ثلاثين عاماً من الخدمة، يُحال على التقاعد، فيقرر إطلاق مطعم خاصّ بطبق الكسكس بالسمك، ويختار مكانه على سفينة قديمة في الميناء.
وعلى رغم موارده المادّية الشحيحة، وصحته العليلة، وحياته العائلية المضطربة كونه مطلّقاً ولديه عشيقة مهاجرة تدير فندقاً رخيصاً، يواصل السيد سليمان نضاله وتمسكّه بعائلته وأولاده اللذين يتجسّدان في علاقته بسمك البوري ــــ وهو رمز الفأل الحسن في الثقافة الشعبية التونسية ــــ إذ يصرّ على شراء البوري ويجعل عائلته تتحلّق حول طبقه الشهي. وهي الطريقة التي اختارها المخرج ليطلعنا على طبيعة العلاقات المتشابكة بين أفرادها، فنكتشف بمناسبة غداء عائلي تتم فيه دعوة كل أفراد العائلة الموسعة للسيد سليمان حجم الرابط العائلي وانفصامه معاً. وحين يعلن بطلنا مشروعه الاستثماري، يهب الجميع لمساعدته.
مغامرة سليمان تبلغ ذروتها ليلة افتتاح المطعم، حين تكتشف ابنته أنّها نسيت القدر الذي يحوي الكسكس (سميد مستخلص من طحين القمح أو الذرة) في صندوق السيارة. لكن تلك السيارة اختفت الآن، إذ غادر بها الابن لمواعدة عشيقته الفرنسية، زوجة أحد المسؤولين المحلّيين المدعوّين إلى حفلة الافتتاح.
أمام هذا المأزق، تتعاضد العائلة لارتجال حلول لكسب الوقت. يركب سليمان دراجته بحثاً عن ابنه لاسترجاع قدر الكسكس، لكن زمرة من زعران الحيّ تسرق الدرّاجة، وينهمك الرجل في مطاردتهم حتى يسقط مغمياً عليه. في تلك الأثناء، ترتجل ابنة عشيقة سليمان وسيلة لإلهاء ضيوف حفلة الافتتاح من «علية القوم»، إذ تقدّم لهم وصلة رقص شرقي ملؤها الإغراء. وفي اللحظة التي يسقط فيها سليمان مغمياً عليه في الشارع، تعود عشيقته بقدر من الكسكس الجديد لإنقاذ الموقف، لكنّنا لا نعرف مصير السيد سليمان بعد سقطته...
هكذا، يكمل المخرج حكايته في جو يتنقّل بين اليأس والأمل، ليحكي بشاعريّة وخفّة معاناة المهاجرين العرب إلى فرنسا، في مواجهة التهميش والعنصريّة المبطّنة... ويصوّر تلك الطاقة الحيّة لدى أبطاله على رفض الاستسلام، إذ يجدون أنفسهم ككل مرّة مضطرّين لارتجال الحلول وذلك منذ وصول الأجيال الأولى إلى أرض الغربة.
«أسرار الكسكس»، حمله كشيش على بلاغة وأسلوب التصوير التسجيلي، كطريقة لشد الانتباه إلى الحياة اليومية المزدحمة بالتفاصيل لهذه العائلة المهاجرة. الكاميرا تنتقل من مشهد إلى آخر، تحبك الأحداث بتلقائية، من دون اللجوء كثيراً إلى عملية التركيب التقليدية. وهو ما يقرّب الشريط إلى ما يسمى «جماليّة أسلوب الهواة» (استيتيكا أماتورا)، حيث طريقة التصوير المرتبكة والتلقائية جزء أساسي من بلاغة المشهد السينمائي.
عبر هذا الأسلوب المراوغ، نجح كشيش بأن يفلت من الرتابة والافتعال... كما كسر الاكزوتيكية التي نجدها في سينما الجنوب التي تغازل المتلقي الأجنبي بكليشيهات جاهزة، وجعل من شريطه مجالاً لتشريح الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه العائلات المهاجرة، خارج النزعة الاستعطافية. ولعل أهم ما يمكن أن نقف عنده هو صورة المرأة المغاربية وصلابتها، كأن الفيلم هو تحية لهذه المرأة التي غابت كثيراً في الحديث عن قضايا الهجرة.

www.tunicine.net
CinémAfricArt
+216 71 345 683