strong>بيسان طي
• العاصمة اللبنانيّة متمسّكة بإبداعها واستقرارها

وسط الدوّامة، تواصل بيروت حياتها الثقافيّة، كما في أيام «السلم» والاستقرار. تتوالى المعارض والمسرحيّات والأمسيات الموسيقيّة... وقريباً يصل الربيع بمهرجاناته ذات الطابع العربي والعالمي. المجتمع الأهلي يقاوم الانهيار؟

في ليالي العراكات المتنقّلة لرسم خطوط تماس جديدة، تفتح المسارح وقاعات العرض أبوابها لجمهور ملّ غوايات الشاشة الصغيرة والملاهي الليلية. بدا الفنانون كأنهم انتفضوا انتفاضتهم الكبيرة. وها هي بيروت تنبض اليوم بعروض مسرحيّة وموسيقية ومعارض تشكيلية... كأن الثقافة تقاوم محاولات جرّ البلاد إلى حرب أهلية جديدة.
عندما قدّم ربيع مروة «كم تمنّت نانسي لو أنّ ما حدث ليس سوى كذبة نيسان» خلال عطلة الميلاد، تبيّن أنّ أيام العرض ليست كافية لاستضافة كل الراغبين بحضور العرض. أمّا جواد الأسدي فأطلق مجدداً عروض «نساء السَّكسو... فون»، بينما عاد رفيق علي أحمد مع «جرصة» بعد سنة على عرضها.
وفي غاليري «جنين ربيز»، تقدّم ريم الجندي لوحاتها. بينما يؤكد العاملون في غاليري «عايدة شرفان» في وسط بيروت وإنطلياس أنّ الغاليري ستستضيف «من الآن فصاعداً» فناناً كل شهر ويضيفون «نريد أن نستمر». وتواصل مكتبة الـ CD-Theque رهانها بإنتاج أسطوانات لموسيقيين من لبنان والعالم العربي. أما جمعية «أشكال ألوان» فتستعد لفوروم «أشغال داخلية» الذي يتوقّع أن يكون تظاهرة كبرى تستقطب إلى لبنان عشرات الضيوف البارزين عبر العالم، كما يعد مسرح «دوّار الشمس» باحتفالية غنية في الذكرى الستين للنكبة...
هكذا، تطول قائمة النشاطات الثقافية في العاصمة، ويكفي أن يطالع المرء الأجندة الثقافية، ليتنبه إلى أنّ الخيار دسم نسبياً أمام من يريد الخروج للتواصل مع أعمال إبداعيّة مختلفة، وعروض تقترح لغات فنية متنوعة.
وإذا كان «المركز الثقافي الفرنسي» فاجأ الجميع، وخيّب آمال كثيرين، بإقدامه على إقفال فرعيه في صيدا وطرابلس، فإن «المركز الثقافي الإسباني ــــ ثرفانتس» يواصل برنامجه السنوي المعدّ مسبقاً، مصراً على تقديم النشاطات المقررة، من حفلات وعرض أفلام ومحاضرات. مدير المعهد ادواردو كافالو يقرّ بأن الظروف مقلقة، وأن المعهد يواجه أحياناً صعوبات في إقناع فنانين بالمجيء إلى لبنان. لكنّه يلفت إلى أنّ وسائل إعلام أجنبية «تُضخّم» ما يحدث في لبنان ويشدّد على أنّ الصالات امتلأت في الحفلات الأخيرة التي نظّمها المعهد، فـ«ردود فعل الجمهور كانت رائعة في بيروت وطرابلس».
الحركة الثقافية لافتة، تضاهي أحياناً بزخمها ما كانت عليه أيّام «السلم الأهلي». في «مسرح المدينة» تتمرّن رندا الأسمر وسنتيا كرم مع غابرييل يمّين على مسرحيّة من إخراجه بعنوان «حضارة» (بدءاً من 6 آذار/ مارس المقبل في المسرح المذكور). وثمة ثلاثة مسارح تلفت بنشاطها: مسرح «مونو» (الأشرفيّة)، ومسرح «بابل» (الحمرا)، ومسرح «دوار الشمس» (مستديرة الطيونة). تشكّل تلك الفضاءات مثلثاً يحاصر الشوارع التي تشب فيها الخلافات وتنتشر في أرجائها التوترات، كرأس النبع والبسطة والنويرة ومستديرة بشارة الخوري.
في «مونو»، تتوالى العروض. ما كاد جو قديح يفرغ من تقديم «الشرّ الأوسط»، حتى انطلق كميل سلامة بمسرحيّة «كيف هالتمثيل معك؟». وحين ينزل ممثلو سلامة عن الخشبة، سيعتليها سامي خياط بعرض جديد. ويستضيف المسرح الشهر المقبل «المهرجان الدولي للحكايات والمونودراما». منسق النشاطات في «مونو» زياد حلواني يقول: «نحن مستمرون ما دام الفنانون مستمرين معنا. أعددنا برنامجاً مكثفاً حتى حزيران (يونيو)، يتضمن عروضاً لبنانية وأجنبية». ويعتقد حلواني أنّ الفورة الثقافية، تعود في جزء منها إلى رغبة الفنانين في تقديم ما عندهم، بعدما تخوّفوا العام الماضي من تقديم أعمالهم... لكنّهم قرروا هذا العام أن يعرضوا أعمالهم للجمهور.
قد تساعد تجربة قديح على رسم صورة لمجهود أهل المسرح اليوم. هذا المخرج الشاب لم يعثر على راعٍ للمسرحية، فتولى الإنتاج «بمجهود شخصي». أما الممثّلون (طوني بلابان وعمار شلق وشادي الزين وسيلين سرسق)، «فتصرفوا كأنّهم عائلة واحدة... وطلبوا تأجيل الحديث في الأمور المالية حتى نرى ما سيحصل». استمرت البروفات واللقاءات بشكل طبيعي، وإن ترافقت بعبارة «إذا كانت الحالة منيحة»... وقد حدث بالفعل ما تمنته أسرة العمل، استمر العرض أسبوعين، وامتلأت الصالة بالحضور. وفي أيام الأحداث الأليمة، لم يتوقف العرض «هناك 30 مجنوناً رائعين حضروا في الليلة التي اندلعت فيها أحداث مقلقة» أعادت إلى الأذهان شبح الفتنة المقيتة. ويلفت: «نصحني بعضهم بألا أقدم المسرحية، لكنها نجحت وسنقدمها من جديد نهاية هذا الشهر، لكن على خشبة «مسرح مونرو» هذه المرة».
في «بابل» نسمع كلاماً آخر. المخرج العراقي جواد الأسدي افتتح في بيروت المسرح الذي كان يعتقد أنه سيشيّده في العراق فحالت الحرب دون حلمه. يتحدث عن التماس بينه وبين العاصمة اللبنانية: «هي السقف الأعلى حيث يستطيع المرء أن يقول الأشياء الأكثر مشاكسة». لكن الأسدي أُصيب بالخيبة والمرارة. هو الذي أراد المشاركة في تكوين نسق ثقافي للمدينة، يراها «وقد بدأت تصطدم بالجدار السياسي». ويعترف بأنّه في حيرة: «يصعب أن أترك المسرح وأمشي. ويصعب أيضاً أن يعيش المسرح إذا لم يتابعه الجمهور»! لكنه يلفت إلى أن «الناس يتعاملون مع الثقافة كملجأ يومي، وكرد فعل لسخطهم على الوضع القائم». وفي برنامج «بابل»، مسرحيات ومعارض تشكيلية وعروض موسيقية، وإن اعتذر بعض الفنانين عن عدم الحضور إلى بيروت... إلا أن آخرين يلتزمون بالبرنامج.
الحياة الثقافية تنتعش كفعل مقاومة لفكرة الحرب. هذه الملاحظة تصبح بديهية لدى الكلام مع الفنانة حنان الحاج علي التي تشرف مع رفيق دربها المسرحي روجيه عساف على «دوّار الشمس». ثمة لوعة وحماسة في صوتها، في عينيها اللتين تحبسان دمعة عندما تذكر أنّ أولادها يهاجرون: «في الحرب الأهلية. وخلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، رفضنا أن نترك البلد. اعتبرنا قراراً كهذا فعل خيانة، لكن لبنان بات ينزف شبابه». وترى حنان أنّ «ما نعيشه اليوم ناتج عن الاستسلام للميليشيات عام 1984، ثم الانفتاح على ليبرالية قاسية ومصادرة وسط البلد... هكذا انزلقنا إلى نفق اجتماعي وسياسي لا أفق له».
تزداد المرارة في الكلام، وتحتار الفنانة اللبنانية وهي تذكر «نحن أول شعب يصرّ على تحويل انتصاره (في حرب تموز) إلى هزيمة». وفي موازاة الحديث عن الانتصار، تتناول قضية الاستمرار في استضافة نشاطات ثقافية، «إنها قصة حياة أو موت...إذا توقفنا، سننتهي».
يحتضن «دوار الشمس» حالياً أنشطة ثقافية في الذكرى الستين للنكبة، عبر ورشة انطلقت من المسرح لتشمل مخيم البص، ثم الرشيدية وبرج البراجنة، حيث يتم العمل على تماثيل من الشمع في معرض يستضيفه «دوار الشمس» لينتقل إلى أدنبره. وفي «دوار الشمس»، ستُقام الدورة الثالثة من مهرجان الربيع الذي تنظمه جمعية «المورد» ليحل عليها نصر حامد أبو زيد محاضراً، والكاتبة الهندية كيران ديساي صاحبة «بوكر». كما سينظّم ملتقى للكاتبات الخليجيات، وستُُقام حفلات موسيقيّة، وبين ضيوفها سيمون شاهين وعاليم كاسموف وسعاد ماسي. كما قد يلتقي المخرج التونسي الفاضل الجعايبي مجدداً جمهوره اللبناني عبر مسرحية «خمسون». لكن رغم إصرارها على المقاومة، لا تعرف حنان الحاج علي كيف تجيب حين نسألها: «هل ستستمر اندفاعة الفنانين والمثقفين والجمهور؟».
يصعب تقديم تفسيرات خطيّة لما تشهده حالياً الحركة الثقافية في لبنان، خصوصاً أنّ سنوات السلم الأهلي والحكومات المتتالية أهملت الشأن الثقافي وأهله. هل ننسى أنّ وسط بيروت أُعيد إعماره بالكامل... لكن التياترو الكبير تُرك وحده، حائراً بين أشباح الماضي ومشاريع الاستثمار السياحي، ليشهد على الحرب وآثارها؟ الذاكرة الثقافيّة لبيروت منارة العرب، خلفيّة لمطاعم الـ«فاست فود»؟