دمشق | أثناء تصوير فيلمه «سُلّم إلى دمشق» (21/3 ـ فيلم الختام في «أيام بيروت»)، كان على محمد ملص أن يكتب بالعدسة اللقطة المتخيّلة، فيما كانت اللحظة المعاشة خارج الكادر تفرض نفسها قسراً، على مجريات الشريط، كأن تقع قذيفة بالقرب من موقع التصوير، ما يستدعي إعادة تصوير اللقطة المتخيّلة، لتظهيرها من صوت القذيفة. زيادة الاختناق، ورائحة البارود التي التصقت بثياب الممثلين، وجدران الغرف، وملاءات الأسرّة، فرضت عليه استعمال عدسة أخرى لتوثيق هذه اللحظات.
وسيكتب في يومياته «ما آلت إليه أحوالنا أسوأ بكثير من فرصة التوقع أو الرهان. فقد مادت الأرض من تحتنا وتحوّلنا من شعب إلى كومة حطب ليس لها من دور سوى أن تموت قتلاً، أو صلباً أو كمداً، أو أن تفرّ، أو تهاجر». هاجرت بطلة الشريط نجلاء الوزة إلى جنوب أفريقيا، وبعد أشهر، وصل خبر انتحارها المباغت هناك. لم يعرف أحد سبب الانتحار، وإن كان ليس مستغرباً. في ظل الجحيم السوري اللزج، عليك أن تفكر بطريقة ما للنجاة، ولو منتحراً. أما «سلّم إلى دمشق» فقد أكمل جولته بين المهرجانات من دون أن تتاح للجمهور الدمشقي مشاهدته، وها هو يحطّ الرحال في بيروت أخيراً. لم يشأ صاحب «أحلام المدينة» أن يقحم فيلمه في خندقٍ ما. أراده شهادة نزيهة عن مخاض عسير تعيشه البلاد، مكتفياً بمفردة «حرية» في التعبير عن رغبات شخصياته، وبوصفها الفاكهة المحرّمة، في وجدان السوريين، ما أثار جدلاً واتهامات عشوائية في حق المخرج وشريطه.

لم يبتعد عن
شاعريته التي وسمت أفلامه الأخرى


تختلط سيرة ملص السينمائية مع سيرة إحدى شخصيات فيلمه. ذلك أن المصوّر الشاب في الشريط، كان مهووساً بالسينما، والتصوير، وتوثيق وقائع ما تعيشه دمشق اليوم، تحت وطأة العنف والتظاهرات والاعتقالات. يرث الشاب عن والده الراحل شغفه بالسينما والأشرطة القديمة. هنا يستعير ملص مشهداً من فيلمه التسجيلي «نزيه الشهبندر» أحد رواد السينما السورية، وهو يبكي ضياع أرشيفه السينمائي، ويوصي الابن بأن يخلص لعدسته، وهو ما يجعله يعيش الشغف نفسه بأن يعرض ما تبقى من أرشيف الأب، على جيرانه في النزل الذي جمع بين جدرانه «سوريا مصغّرة».
كما سيوجّه ملص تحية إلى صديقه المخرج الراحل عمر أميرلاي بأن يزور المصوّر قبره، ويضع ملصقاً من أحد أفلامه فوق رخام الضريح، قبل أن يخاطبه «انكسر الخوف... طوفان يا عمر طوفان»، في إشارة إلى فيلمه «طوفان في بلاد البعث». في البيت الدمشقي القديم، سنلتقي عيّنات من المجتمع السوري في إثنياته المتعددة، إذ تمتزج اللهجات والأحلام والخيبات، قبل أن ترتطم بعنف، بما يجري في الخارج. فالبيت، كما يقول أحد نزلائه، سجن آخر، مستعيداً، سيرة سجين، هو أب صديقة إحدى النزيلات، أو قرينتها، في زمنٍ آخر. مرّة أخرى، يستعير ملص مشهداً من فيلمٍ تسجيلي، كان أنجزه، قبل سنوات، عن تجربة المعتقل السياسي غسان جباعي بعنوان «فوق الرمل، تحت الشمس»، كأن اللحظة السورية المأزومة، لم تتوقّف يوماً، فما كان يحدث بالأمس، نعيشه اليوم، بجلاءٍ أكبر. إذ يُعتقل أحد نزلاء البيت، إثر مشاركته في تظاهرة في ساحة الجامع الأموي، ثم يعود منكسراً ومحبطاً، فيما يكمل نزيل آخر سيرة الألم، حين يروي لصديقته النحّاتة، كيف أوقفه عنصر عند حاجز أمني، وسأله «هل أنت سوري؟». وحين أجابه متفلسفاً عن معنى الهوية، صفعه عنصر الأمن، وأمره بالذهاب بعيداً. هكذا تلتئم الندوب السورية في الجسد العليل في ثيمات متجاورة تحتكم إلى سردية هجينة، تجمع بين الوثيقة والتخييل السينمائي، في رهان على جيل شاب يعيش حيرة السؤال وصعوبة الإجابة، نظراً لتراكم الجحيم السوري، وندرة الأوكسجين. إذ يضيق المكان بنزلائه الذين يجدون في مناماتهم تعويضاً عن خسائرهم الفادحة، فالغياب والفقدان والتيه، يأخذهم إلى مسالك غامضة وملتبسة، فسؤال الهوية يبقى معلّقاً في الفراغ. على الضفة الأخرى، يضيء صاحب «أحلام المدينة» تضاريس المجتمع السوري في لحظته الراهنة المشبعة بالخوف والانتظار، والتطلّع إلى شمسٍ أخرى، محاولاً تفكيك معنى الخوف، وآلية الاستبداد.
وإذا بشخصياته القلقة تقشّر طبقة الخوف تدريجاً، وتعانق حلماً طالما انتظره هؤلاء في ظل الإهمال الذي أطاح تطلعات جيل لم يعش أزمة الآباء، فأراد التمرّد على أحوال العسف، والخروج من وراء الجدران الكتيمة والأبواب المغلقة نحو كلمة السرّ، وهي ببساطة «الحرية» من دون أي مراوغة بلاغية. ينتهي الشريط بمشهد تحطيم جهاز التلفزيون، بعد أن يستمع أحدهم إلى خبر موت سينمائي شاب في حمص، ثم يحمل السلّم إلى السطح، مقرراً الصعود إلى السماء، ثم يهتف «حرية». لم يبتعد محمد ملص عن شاعريته التي وسمت أفلامه الأخرى، لكنه هنا يغامر بمجموعة من الوجوه الجديدة التي تقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، محاولاً ردم المسافة بين النظرة التأملية، ونزق الشباب، وتالياً، فإن محمد ملص يدخل هذه المرّة من باب التجريب بقوة وجسارة وشجن.