نجاتي طيارة*
مَن تابع أحداث إعلان دمشق ـــــ بيروت وأزمته، لاحظ دور الكاتب والمفكر ميشيل كيلو فيها، وهي أحداث غرائبية انتهت بزج مجموعة من المثقفين والناشطين السوريين في السجن، كان ميشيل أبرزهم، كما تبعها تسريح عدد من الموقّعين السوريين من وظائفهم في الدولة.
في الحقيقة، لعب ميشيل دوراً بارزاً في تلك الأحداث، إن لم يكن الدور الأبرز. ليس فقط لأنّه الأكثر ديناميكية بين الكتّاب والناشطين السوريين، بل أيضاً نظراً إلى كفاءات الرجل وثقافته اللتين كانتا تؤهلانه لمثل ذلك الدور.
لكن ما ليس معروفاً أو شائعاً عن ذلك الدور، قد اطلعت عليه، بحكم طبيعة مشاركتي في الإعلان، وكان اسمي ظهر مصادفة كأول الموقعين السوريين عليه، على رغم أنّ الترتيب الأبجدي أو غيره لا يجيز لي ادعاء تلك الأولوية. ذلك أن دور ميشيل لم يتوقف عند الدعوة إليه والحوار بشأنه مع مجموعة من المثقفين والناشطين السوريين واللبنانيين، انطلاقاً من الرغبة بوقف تدهور العلاقات اللبنانية ـــــ السورية (...) وصولاً «إلى العمل المشترك من أجل التصحيح الجذري للعلاقات بين البلدين والشعبين وفقاً لرؤية وطنية مستقبلية مشتركة»، بل ترافق ذلك الدور، كما شهدت، مع رؤية سياسية عقلانية، دفعت بميشيل إلى مدّ أجل الحوار شهوراً بشأن نص الإعلان! كما دفعته أكثر من مرة إلى الحديث عن التمهل في إصداره بعد ملاحظة توتر بعض المسؤولين وانزعاجهم من أفكاره التي كانت بدأت بالتسرب.
هنا، أذكر أنّ الرجل لم يكن متعجلاً، ولم يكن في هذه المسألة كما في غيرها، من ذوي الرؤوس الحامية، لكنّه أيضاً لم يكن مستعداً للتخلي عن دوره المفترض كمثقف لا يستطيع الوقوف متفرجاً على قضايا بلده.
وفي كل ذلك، لم يكن يخطر في بال أحد أنّ الرد على إعلان بيروت ـــــ دمشق سيكون بتهمة من عيار «دعوة بلد عدو إلى احتلال سوريا»، فهي تهمة غريبة بل عجائبية، لا يفهم كيف أمكن نسبها للإعلان وموقعيه. في حين أن مناقشتها لا تصمد أمام أي تحليل سياسي أو حقوقي، وخصوصاً بعدما نصّ البند الأول من مكوّنات الرؤية التي دعا إليها بصورة واضحة ومحددة على: احترام سيادة كل من سوريا ولبنان واستقلالهما وتمتينهما في إطار علاقات ممأسسة وشفافة تخدم مصالح الشعبين وتعزز مواجهتهما المشتركة للعدوانية الإسرائيلية ومحاولات الهيمنة الأميركية.
أما التهمة الأكثر غرابة من بين التهم التي وُجهت إلى ميشيل وحكم عليه بالسجن وفقها، فكانت تهمة إثارة النعرات العرقية والطائفية، وقد استند الاتهام فيها إلى مقال له رافق نشره (القدس العربي 16 أيار/ مايو 2006) صدور الإعلان نفسه، حمل عنوان «نعوات طائفية». وهو مقال عبّر عن ملاحظة مفكر لمّاح، راعه ما قرأه من عبارات ومعان حملتها أوراق النعي المنشورة على جدران مدينته، ورأى فيها تجلّيات منذرة لظاهرة اجتماعية مستفحلة، تعكس وقائع التمايز بين المدينة والريف في علاقتهما مع أجهزة السلطة، وعلى رأسها جهازا الجيش والأمن، و«تلقي الضوء على حقائق التوزيع الطبقي والسياسي» في اللاذقية كمدينة «طالما تعايش فيها بسلام وتفاعل أبناء الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة».
وإذ وصف تلك الحقائق بالواقع المقيت الذي لا تدركه الادعاءات الرسمية، فقد رأى «بصيص الضوء في تلك العتمة»، منعقداً في السنوات الأخيرة على النشاطات الاجتماعية التي ينتسب أبناء المدينة إليها طوعياً «من مختلف المهن ومن جميع الاتجاهات السياسية والأديان»، «على أرضية المواطنة». وذلك جلّ ما تضمنه المقال الذي كان يستحق تهنئة الكاتب على حرصه الوطني.
واليوم، يقبع ميشيل في سجنه، وهو المثقف السوري الأكثر نشاطاً في الدفاع عن القضايا الوطنية والقومية والديموقراطية لبلاده. وهو الذي وجّه رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي بوش (النهار 3 تشرين الأول/ أكتوبر،2001 ) بعنوان «بلدكم سيخسر الحرب» قال له فيها: «أنا مواطن عربي تقول شهادة ميلاده إنّه مسيحي، قاوم طوال السنين الأربعين المنصرمة سياسات بلادك. وأنا فخور بأنني ابن الدين الإسلامي والحضارة التي أنجبتنا، وابن اللغة العربية والثقافة العربية/ الإسلامية الفريدة التي تجعلني مواطناً عربياً ملء نفسه الإسلام وقيمه والتاريخ الذي صنعه مع المسيحية وقام على التسامح الديني».
بعد كل هذا، ماذا لو كان السجن الذي يقبع فيه ميشيل كيلو وزملاؤه واقعاً أغرب من الخيال؟ ألا يبدو إطلاق سراحهم اليوم قبل الغد، وإنهاء هذه الغرائبية مقدمة ضرورية لوقائع سورية أكثر معقولية؟
* ناشط في مجال حقوق الإنسان ــــــ سوريا