بيسان طي
كتابه الجديد ليس سيرة ولا نصاً مسرحياً. إنّه شهادة حيّة، عنيفة أحياناً، تزخر بالتفاصيل، يرويها عراقي تائه يمكن اختصار حياته بمحطات متعاقبة على طريق المنفى... آخرها بيروت، حيث افتتح مسرح «بابل»، وقدّم لوركا، وأصدر دفاتره عن «دار الآداب»

جواد الأسدي الذي يملأ شارع الحمرا بضجيج مسرحه «بابل»، يطل ليعلن : «المسرح جنتي» عنوان كتابه الجديد الصادر عن «دار الآداب». وإذا كانت الجنة تحيل إلى صور السكينة والهدوء، فإنّ الكتاب شهادة نابضة، عنيفة أحياناً، تزخر بتفاصيل وبروفات وصداقات... وخناقات أيضاً. إنه نصّ جارف يتأرجح بين صعود وهبوط في حركة الكاتب، وبين يأس ونشوة وفرح، وهدم واكتشافات...
والأهم أنّ الكتاب عصيّ على التصنيف، هو ليس سيرة بالمعنى العلمي، ولا تأريخاً لتجربة كاتبه، أو ما يشبه دفاتر المخرج المسرحي في عمله الميداني على طريقة بريخت، وليس نصاً مسرحياً، ولا مطالعات نظريّة من أجل المسرح... إنّه خليط من كل ذلك، في مهبّ الذاكرة تتعامل معه على هواها، وتختار من «ريبرتواره» ما تشاء. لا بدّ للقارئ من أن يتساءل، مثلاً، عن سبب غياب أي تناول مطوّل لتجربتين أساسيتين في مسار هذا الفنان العراقي، عُرضتا في بيروت ومدن عربيّة وأوروبيّة عدّة، هما مسرحيّتا «الاغتصاب» و«الخادمتان».
يتقاطع السرد مع شيء من الـ«فلاش باك». وكما على الخشبة، يتلاعب الكاتب بالتسلسل الزمني للحوادث، وبلغة متعددة، ينتقل ــــ من غير استئذان! ــــ من سرد حوادث ووقائع، إلى مقاطع من مسرحياته. وبعدما نقرأ جملاً شعرية، ومقاطع هي أقرب إلى التأملات والخواطر، يقدّم الأسدي تحليلاً لإحدى الشخصيات، فنلمس التقاطع بينه وبينها، ثم يعود ليحكي عن البروفات، فالمدن والمقاهي، وينتقل إلى وضعية مراقب لعلاقة التفاعل بين الجمهور والخشبة.
لا مكان للتساؤل عن جدوى المسرح أو مكانته في عصرنا هذا. يكتب الأسدي المنشغل بأمور الخشبة، بما تتطلبه من الممثل، بالمساحة التي تسمح بها لتطوير أدائه والبحث عن صيغ جمالية وتركيبات درامية متنوعة. بل إنّ «المسرح جنتي»، يدفع القارئ إلى التساؤل: هل من حياة للأسدي خارج المسرح وفضاءاته؟ حتى المقاهي التي يرتبط بها هي مساحات نقاش ولقاءات حول المسرحيات المعروضة والمفترضة.
في الفصول الأخيرة من الكتاب، نقرأ مقولة هاملت الوجوديّة الشهيرة، كما استوحاها الأسدي بتصرّف: «مسرح أو لا مسرح». وبذلك، يصبح المسرح شرط الوجود لهذا المخرج. وأحياناً، نشعر بأنه بديل عن بغداد. وإن ظلَّ العراق حاضراً في عمله، فإن المسرح صار أكثر التصاقاً وشَبَهاً بالأسدي. هذا المرتحل الدائم، منذ غادر بلده سنة 1976، ليكتشف بعد ربع قرن أنّ منفاه أبدي، سيعيدنا إلى أجواء العاصمة عاشقة الشعر والمسرح والثقافة في السبعينيات، إلى اللقاءات في مقهى «أم كلثوم»، وعمله الأول بعد التخرّج «العالم على راحة اليد». وسيواكبه القارئ في بعض محطات ترحاله: من صوفيا، حيث تابع دراسات عليا في المسرح، إلى دمشق وبيروت، مروراً بالقاهرة وأوكرانيا... وسيحكي الأسدي حوادث ووقائع مهمّة وغير معروفة، فيذكر مثلاً أنه كان يذهب مع سعد الله ونوس لزيارة مقام السيدة زينب في الشام، ثم نُفاجأ بصراحته في إعلان رأيه بعمل بعض الممثلين، وحماسته لآخرين... كأننا به يتعامل مع مساحة الكتاب، تماماً كما الفضاء المسرحي: فوق الخشبة، لا يمكن أن يُخفى شيء عن الجمهور. نعود مع المخرج إلى العراق الجريح، إلى مغامرة تقديم «نساء في الحرب»، وسيتوقف طويلاً عند لوركا، ويقول: «حتى هذه اللحظة، لم أستطع أن أفكّ هذه الحسرة التي تتركها في نفسي قصيدة لوركا». ويضيف «لا أفهم لماذا يهتز بدني كله خلال بروفاتي على مسرحيات لوركا...».
إلاّ أن الأسدي، وإن أغنى كتابه بآراء في السياسة، وفي المؤسسة الثقافية العربية المعوّقة للعملية الإبداعية، فإنه يحتفظ على امتداد صفحات الكتاب بطبيعته الأولى كمخرج. لغته متشابكة بقاموس المسرح، يغرف منه في توصيفه لشؤون السياسة والثقافة والاجتماع. فالعراق مثلاً، «تحول على منصة مجلس الأمن إلى يوليوس قيصر». وهو يعلن انحيازه إلى البروفات حيث عمليات الهدم والتركيب المستمرة. يقول إنّه يكره «قدسية النصوص ووثنيتها»، ليؤكد أنّ المسرح «حالة نخبوية فردية تشبه إلى حد كبير عمل المتصوّفة». ويعترف أخيراً: «أدركت أن العنف العالي، وشراسة الأداء، من خصوصياتي كمخرج مسرحي ينتمي إلى إرث وأصول وتاريخ شهد فيه العنف صعوداً دراماتيكياً جحيمياً»... ثم يسترسل في الحديث عن «المجزرة ماكبث» و«إنسوا هاملت»، ثم يذكر أن «مثقّفينا» أقرب إلى «العنبر رقم 6» لتشيخوف منهم إلى العالم الشكسبيري. كما يذكّر بأن المؤسسة الرسميّة في العالم العربي، لم تشجّع يوماً على قراءة ذلك الكاتب الإنكليزي العريق بعمق، بكل بساطة لأن مسرحياته «نصوص فكرية تقلق السلطة».
المسرح كالسياسة يطال كل شيء، في كلام الأسدي الذي يذكّر كيف أفسد الإنتاج التلفزيوني ممثلين ونجوماً، وذهب بهم بعيداً عن هم التعمّق في البحث عن لغات وأطر جديدة للتمثيل، وعن آفاق جديدة للخشبة نفسها. وتنال السلطات قسطها من النقد القاسي، إذ إنّها لم تدعم الثقافة، وجعلت المشتغلين فيها بالكاد يجدون قوتهم... كما ينتقد بعنف «القراءات السطحية» لبعض الأعمال الثقافية، واستسهال بعضهم لإطلاق أحكام التخوين. ولا يسلم من قلمه المثقف العربي «الذي كان ولا يزال يشكل الضحية الصنمية لبطش السلطة واستغلالها». وفي رأيه إنّ الـ«هاملتيّين» العرب صنفان، جزء يدير «مروحيات التسويق السلطوي الحديث»، وآخرون «ربيبو المقاهي الذي يلوكون عناوين الكتب ويلوكون جملة هاملت الشهيرة...».
الأصعب في كتاب جواد الأسدي الجديد، كالعادة، محاولة تلخيصه وتصنيفه. إنّه كتاب عن المسرح يغني المكتبة العربية التي تعاني نقصاً في هذا المجال... وهو أيضاً شهادة اختار جواد أن يقولها في هذا الوقت بالذات، واستند، ربما، إلى «سلطته» كمخرج يختار من نص حياته ما يشاء... يرويه ويعيد كتابته.