strong>بيسان طي
•العلمانيّة والمواطنة وحقوق الإنسان في ضيافة دير مار الياس
المغامرة انطلقت في عزّ الانقسام الأهلي، ثم صارت مؤسسة ترفع شعار الثقافة لا العنف. إنّه عيد الكتاب المشرّع على تجارب وأمزجة ثقافية وسياسية مختلفة، تلاحقه «خصوصيّة محليّة» ربّما، لكن بعيداً عن التقوقع والانعزالية...

ينطلق اليوم «المهرجان اللبناني للكتاب» في أنطلياس، ليخترق هذا الحدث الثقافي هدوء البلدة الرابضة شمالي العاصمة اللبنانيّة، والتي لعبت دوراً مهماً في التاريخ السياسي والثقافي الوطني منذ القدم. ستعجّ قاعة المعرض في دير مار الياس، بآلاف الزائرين الذين اعتادوا هذا الموعد السنوي منذ 27 سنة، أو اكتشفوه على الطريق: «موعد حفظه الناس منذ زمن طويل»، يقول الأب مارون عطا الله أحد مؤسسي المهرجان الذي أُطلق في عزّ الحرب الأهليّة اللبنانية والانقسام السياسي والجغرافي. يومها، أُقيم نشاط صغير في إحدى قاعات دير مار الياس، شاركت فيه دور قليلة، لكنّه شهد إقبالاً كبيراً... وكان هذا النجاح المفاجئ فاتحة مغامرة خاضتها «الحركة الثقافيّة في أنطلياس»، في المكان نفسه الذي شهد عام 1840 العامّية الفلاحيّة الشهيرة، وفيها توحّدت الطوائف (طائفتان) تحت لواء همّ طبقي ووطني واحد!
«إنه مهرجان للكتاب وليس معرضاً فقط» هذه الجملة التصحيحية تتردد على ألسنة المنظّمين، وبعض المنشغلين بإعداد أجنحتهم قبيل الافتتاح. والتصحيح يحمل معنى الاحتفاء بالكتاب: ليس فقط سوقاً للبيع، بل مناسبة ثقافيّة للاحتفاء بالكتاب وبأهله إذاً..
سيحتضن المهرجان الذي تنظّمه «الحركة الثقافية ــــ أنطلياس» نحو 60 جناحاً، على مساحة تمتد ألف متر مربع. ويؤكد المنظّمون أنه يصعب تحديد عدد الدور المشاركة فيه. لدى «دار الجديد» مثلاً نحو 50 توكيلاً لدور ومكتبات أخرى ستقدم كتبها في معرضه. وبرنامج المهرجان حافل بالتكريمات والندوات وتواقيع الكتب. وفي هذا الإطار، يؤكد الأمين العام للحركة، الدكتور عصام خليفة، أنّ «برنامجنا متنوّع، يشمل كل الطوائف والتيارات الفكريّة والسياسيّة».
ومع أنّ المهرجان يريد نفسه عيداً للكتاب، فإن منظّميه لم يترددوا في إعلان «موقف» يربط التظاهرة باللحظة الراهنة في لبنان والمنطقة. يذكّر بيان الإعلان عن البرنامج، بأن «الوطن على شفير الهاوية، أخطار من الداخل والخارج ولا من يتنازل... والمشكلة تخطّت حدود السياسة لتتحول إلى قضية بقاء، يتمسك بها كل من آمن بلبنان وطناً، ونحن في الحركة الثقافية في طليعة هؤلاء... إزاء الوضع المتأزّم، تصرّ حركتنا رغم كل الظروف، على تنظيم هذا التظاهرة الثقافية والوطنية الكبرى، تأكيداً منها مرة أخرى لدور الثقافة الأساسي والمركزي في قيام الوطن، وتقدم المجتمع وتجاوز أزماته».
الإيمان بدور الثقافة في جمع اللبنانيين كان من الأمور التي آمن بها مؤسسو المهرجان، بينما كانت الميليشيات حاكمة بأمرها في «المناطق الشرقيّة» وكل لبنان طبعاً، خلال فترة ولادة المعرض أوائل الثمانينيات. يذكر الأب عطا الله: «ذهبنا إلى حاكم المنطقة في ذلك الحين، وقلنا له إنّنا ننوي إقامة مهرجان للكتاب. لكننا أعلمناهم بأنّنا سنتراجع عن المشروع إذا لم يتحمّسوا له، إذ كان بإمكانهم تعطيله... لكنّنا أفهمنا الجميع أيضاً أننا لن نقيم معرضاً فئويّاً، يقتصر على إصدارات محدودة بالمنطقة الجغرافية ــــ السياسية ــــ الطائفيّة التي (كنا) نعيش فيها».
خلال سنوات الحرب الأهلية، كان مهرجان الكتاب في أنطلياس جسراً من بقية الوطن وإليه، فسحة للباحثين عن لغة سياسية وثقافية مختلفة عن السائد في البقعة الجغرافية التي يُقام فيها المعرض. ويذكر عطا الله: «لم نرد أن نكون بديلاً من معرض النادي الثقافي العربي. في أول مهرجان نظّمناه، قدّم لنا النادي الثقافي العربي منصّات عرض الكتب»، والمنصّة الرئيسة لتكريم مئة من أعلام الفكر. وكان من ضيوفنا في المعرض الأول الشيخ عبد الله العلايلي، وشارل مالك. «المنصة رمز المعرض»، يشدد عطا الله، الذي يتذكر أنه خلال الحرب كان مصطفى جحا صاحب «محنة الفكر في الإسلام» يلقى ترحيباً في ما كان يُسمى المنطقة الشرقية، لأنه كان يكتب ضد الإسلام. لكنّ الحركة رفضت أن يفرض كتبه على مهرجانها. كما يذكر عطا الله أن الكافيتريا في المعرض كانت مكاناً للقاءات والنقاشات الغنية بين الكتّاب والباحثين. ويحلو لعطا الله أن يتوقف عند صور طبعت ذاكرة المهرجان: صور أعلام كرّمتهم أنطلياس، واستعادت بعضهم من ظلمة النسيان، فجاء هؤلاء إلى احتفالات تكريمهم دامعين. وتطول قائمة الأعلام الذين كرّمتهم أنطلياس طوال تاريخ زاد على ربع قرن، لكن لنذكر بينهم ثلاثة: ميخائيل نعيمة وأنيس فريحة وقسطنطين زريق...
وعشيّة الافتتاح، يرى عصام خليفة الذي قصدناه في زحمة التحضيرات الأخيرة، أن نجاح المهرجان واستمراره يعودان بشكل رئيس إلى الالتزام بالثقافة سبيلاً لنهضة المجتمع، «وبأن الكتاب بديل من العنف»، ويتوقف عند محطات عدة من تاريخ المهرجان: «عند اضطهاد الشيوعيين، كرّمنا حسين مروة، وكرّمنا الشيخ صبحي الصالح وعمر فروخ. وأيام الحرب السوداء كنا نعرض جميع الكتب. يأتي البعض ليلاً ليلغي كتباً فنعيدها إلى الرفوف في الصباح التالي. وقد رفضنا وصاية أهل السلاح». ويرى خليفة أن المهرجان يشهد تقدماً «من ناحية نوعية الكتب وكميتها»، ويضيف: «نحن في دير لكن نَفَسنا علماني، ونشدّد على المواطنية واحترام حقوق الإنسان».
الرغبة في تخطّي الحواجز والمعابر خلال الحرب، انسحبت على نشاطات حركة أنطلياس ومكانتها في إطار الخريطة الوطنية بعد انتهاء الحرب الأهلية... وبات مقرّها، ودير مار الياس، من أشهر المراكز في لبنان التي تستضيف نشاطات وفعاليات تجمع شباناً من مختلف المناطق والتيارات، ومنها مهرجان «انتظارات الشباب». وكان مهرجان الكتاب ذاته من مواعيد اللقاءات تلك... لكن هل نجح في كسر طابعه المحلّي ــــ نسأل خليفة ــــ أم ظلّ مرتبطاً بالبيئة المحيطة به، ومقصداً لأبنائها بشكل أساسي ليمثّلوا غالبية الزوار؟
يرى خليفة أنّ «الإطار الجغرافي له تأثير، وأن البيئة السكانية تعطي طابعها للمهرجان». لكنّنا لاحظنا العام الماضي الحضور المكثّف لدور تهتم بالكتب الدينية، فيما بدا حضور بعض الدور المهمة في لبنان خجولاً؟ يجيب: «هذا أمر لم يختره القيّمون على المعرض الحريصون على التنوّع، وقد يكون الخيار التسويقي أو التجاري لبعض دور النشر اللبنانية».
في أي حال، يبقى كسر الحواجز النفسية التي تفرّق بين اللبنانيين طموحاً مشروعاً ومشرّفاً، وخصوصاً في إطار الثقافة التي توفّر وحدها فسحات كبيرة للتفاهم والتواصل ضمن إطار اللحمة الأهليّة. لكنّ ذلك لا يمنع كثيرين من التعامل مع مهرجان الكتاب بصفته «معرضاً مناطقياً» مثلاً، وقد يكون على أهل المهرجان أن يبذلو جهداً مضاعفاً لإبعاده مرة جديدة عن أي تصنيف فئوي، ولجعله مركزاً يسهم في إبراز حيوية ثقافية واجتماعية جديدة في أنطلياس... كي تبقى القدوة لمناطق لبنانية أخرى تضيق بالثقافة، تاركة للمركز وحده، أي بيروت، أن يحتكر الحياة الفكريّة والإبداعيّة وأعياد الكتاب...

حتى 16 آذار (مارس) ـــــ دير مار الياس، أنطلياس ــــ 04،404510
www.mcaleb.org‏