عدي الموسوي
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2003، تعتقل وحدةٌ عسكريةٌ المدعو مناضل الجمادي، وتوسعه ضرباً، ثم تنقله إلى محقّقيه، بعدما تحوّل إلى «معتقل شبح»، أي غير مسجّل في الأوراق الرسمية. هناك، يخضع الجمادي لتحقيق قاسٍ، وبحضور ممرّض متواطئ مع المحقّقين. وبعد ساعات، سيموت لتصبح جثّته مجرّد مشهد يتهافت عليه أفراد الشرطة العسكرية لالتقاط صورهم التذكارية! هذه الحادثة لم تحصل في أحد بلدان العالم الثالث، بل في زنازين معتقل أبو غريب في العراق بإدارة قوات الاحتلال الأميركي!
في «خيانة القسم: التعذيب والتواطؤ الطبّي والحرب على الإرهاب» (الدار العربية للعلوم)، يشرّح ستيفن هـ. مايلز واحدة من أبشع حالات التواطؤ الطبي مع عمليات التعذيب، التي ارتكبتها وحدات من القوات الأميركية بحق المعتقلين لديها. وليست صور التعذيب الشهيرة في سجن أبو غريب سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد السابح الذي يمتد من معتقل غوانتانامو إلى العراق وأفغانستان وحتّى المعتقلات (بالوكالة) في بعض دول آسيا الوسطى.
يبدأ المؤلف بمقدّمة تاريخية عن المكانة الاجتماعية للتعذيب في الغرب، كممارسة ظلّت مشرعنة ومقوننة حتى القرن الثامن عشر. وخلال الحقبة الراهنة، وتحت شعار الحرب على الإرهاب، تبرز الإشكالية الأخلاقية التي يحاول المؤلّف نقل عدواها إلى القرّاء: عند ممارسة التعذيب الوحشي على متّهم بحجّة إنقاذ آخرين، مَن يضمن أنّه متورّط أصلاً؟ وماذا لو تبيّن العكس بعد تعرّضه لصنوف العذاب، وربّما حتى موته؟
وسط معمعة التعذيب وإشكاليّاته الأخلاقية، يستعيد الكاتب نبذة تاريخية موثّقة عن حالات تعاون (مثمر) بين الأنظمة القمعية والجهاز الطبّي، أفراداً ومؤسسات. هذا قبل أن ننتقل إلى الحاضر، لنقف عند أشكال متنوّعة من تواطؤ الأجهزة الطبية الأميركية مع عمليات التعذيب، كطمس الحقائق وتشويهها حمايةً للجلّادين. لكنّنا أيضاً سنشاهد الصراع الداخلي الذي يعيشه أفراد الأجهزة الطبية في ظروف كهذه. إذ يحاولون الخروج منها بتبريرات جاهزة: «ماذا تتوقع منّي أن أفعل، فنحن في حرب؟»، أو «لا أستطيع أن أقول لا». هذه الـ«لا» المحرّمة ستكون منطلقاً لفهم حقيقة سطوة المؤسسة العسكرية الأميركية على المنضوين تحت لوائها. سطوة ستتورّم مرضياً مع تزايد خسائر الأميركيين في العراق، ما سيدعو قائد الاستخبارات العسكرية هناك إلى الطلب من مرؤوسيه ـــــ حرصاً منه على حماية زملائهم من الهجمات العسكرية ـــــ إلى تحطيم هؤلاء المعتقلين الذين هم مصادر معلومات مفترضة.
يشرح المؤلف سبب تراجع دور الطاقم الطبّي الأميركي، معرباً عن صدمته من ردود فعل الأطبّاء المتواطئين مع الجلّاد. ويتبدّى هذا التواطؤ عبر سلوكين. الأوّل هو فشلهم في تشخيص الإساءة عند رؤيتها، والثاني فشلهم في القيام بالتصرّف المناسب. هكذا، فإن التواطؤ لم يقتصر على جلسات الاستجواب، بل تعدّاها إلى الظروف الصحية للمعتقلات والسجون. فالطاقم الطبي لا يبدي أي اعتراض جدّي على ظروف المعتقلات، مع أن المطالبة بتحسينها هي من مسؤوليته.
ويبدي المؤلف استغرابه لعدم اعتراض الطاقم الطبي على ما يجري في المعتقلات الأميركية خلال معركتها على «الإرهاب»، على رغم أن بنية المؤسسات تسمح بذلك. لكن يبدو أنّ مقولة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» ليست مقولة تبرر الأخطاء والتجاوزات فقط، بل هي كلمة السر عند لحظات الشعور بالعجز أمام العدو. كلمة سر تطلق كل شرور النفس البشرية، وتحاصر كل خيرها، فتُلصق كل نعوت الشر بالآخر المختلف، ليكون ذلك ممراً لانتهاك إنسانيته بمختلف الأشكال.