حسين بن حمزة
يُثير كتاب «أثر الفراشة» (دار الريس) لمحمود درويش عدداً من الالتباسات لدى القارئ. لعل درويش نفسه حاول تجنّب التعددية التي تحكم نصوص الكتاب، فوضعها في خانة «اليوميات». لكنّ وسم النصوص بهذه الصفة لا يجعلها تنضوي، كلها، تحت هذه اللافتة. ثمة نصوص كثيرة في الكتاب تتجاوز فكرة اليوميات. بل إن معظمها يفتقد المعنى الدارج لليوميات والذي يتمثل في تدوين الوقائع أو المشاهدات العادية اليومية.
السبب في كل هذا أن محمود درويش لا ينسى أنه شاعر. وإذا نسي هو أو شرد عن كونه شاعراً، فإن لغته، أو بالأحرى معجمه اللغوي ونبرته التي ربّى قصيدته عليها طويلاً، تتكفل بإعادته إلى الحقل الذي يتقن حرثه. الشاعر الذي في داخل درويش يطل برأسه حتى لو كتب نثراً عادياً. الشاعر موجود وإن توارى خلف تسميات أو أجناس أدبية أخرى.
الكتاب، بهذا المعنى، ليس يوميات بالمعنى الحرفي والتقني للكلمة. الطريقة التي ينظر بها الشاعر إلى العالم تتدخل في صوغ كل ما يُستدرج إلى النصوص وشعرنته. لنقل إن ما نقرأه هو استراحة الشاعر من الانكباب المضني على الشعر. النصوص فسحة لكي يتنفس الشعر خارج المتطلبات الصارمة للإيقاع. إنها فرصة كي يستريح الشاعر من مطاردة الصور والاستعارات. لكن هل يمنع هذا تسرّب الشعر أو ما يشبهه إلى جملة درويش حتى وهي مشغولة بغير الشعر. الجواب هو لا بالطبع. فالشاعر لن يقوى على إدارة ظهره للغة التي اعتاد الكتابة بها.
إذا سلّم القارئ بهذه البداهة، فسيكون سهلاً عليه أن يجد تصنيفاً خاصاً بـ«يوميات» محمود درويش. حينها لا يمكن أن يتفهّم فقط وجود شعر متوارٍ أو مدفون تحت سطح العبارات، بل وجود شعر حقيقي بعضه مكتوب بأبيات فراهيدية. لكن لماذا يضع درويش هذه القصائد هنا ولا ينشرها ضمن دواوينه؟ الجواب المرجح هو أن هذه القصائد أقل من الطموح الدرويشي الراهن، خاصة بعد المنعطفات والتطورات التي شهدها شعره في الفترة الأخيرة. الواقع أن بعض هذه القصائد لا يقل عن الشعر الذي نقرأه في دواوين درويش، لكن القارئ المتأني والمتمعن في شعرية درويش يلاحظ أن ثمة شيئاً يعصى على التحديد في هذه القصائد ولكنه كاف ليستبعدها الشاعر عن دواوينه.
تفسح اليوميات مجالاً للتأمل في الموت والحياة ومشاغل العيش العادية. وتفسح للقارئ، في الوقت نفسه، مجالاً كي يعرف جانباً آخر من الشاعر الذي يسبقه شعره وتسبقه فلسطين إلى الجمهور. الشاعر الذي شكا من ربط شعره بالقضية لا يتوقف عن ذلك حتى في يومياته. ها هو يرفع شكواه موزونة هذه المرة: «يغتالني النقاد أحياناً/ يريدون القصيدة ذاتها/ والاستعارة ذاتها / فإذا مشيتُ على طريق جانبيٍّ شارداً/ قالوا: لقد خان الطريق / وإن عثرتُ على بلاغة عشبةٍ/ قالوا: تخلّى عن عناد السنديان/ وإن رأيتُ الورد أصفر في الربيع/ تساءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه/ .... / يغتالني النقاد أحياناً/ وأنجو من قراءتهم/ وأشكرهم على سوء التفاهم/ ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة».
اليوميات، إذا استعرنا تعبير درويش في الاقتباس السابق، ما هي إلا طريق جانبي يقود في النهاية إلى الشعر.